انتخابات تونس.. هل حان زمن الجامعيين؟

محمد أحمد القابسي

فتح صعود المرشح الأول في الانتخابات الرئاسية، قيس سعيد، جدلا واسعا بشأن أهلية الجامعيين التونسيين وقدرتهم على قيادة دواليب الدولة، بالنظر إلى التوصيف الذي استقرت عليه آراء المحللين والمتابعين للرجل الهادئ جدا والمهذب جدا، والذي أمضى أربعة عقود في التدريس في الجامعة التونسية، ويوصف بالحالم والطوباوي والقادم من خارج الأحزاب ومنظومة الحكم، حيث لم يعرف له انتماء حزبي، ولا نشاط سياسي، أكثر من ظهور إعلامي متقطع بصفته خبيرا في القانون الدستوري.. إلى أي مدى في حالة صعوده إلى سدة الرئاسة، وهو الأرجح، يقدر على قيادة الدولة، قياسا بسابقيه الذين امتلكوا تاريخا سياسيا ومهارات استثنائية مكّنتهم من ممارسة الحكم؟

تجاوز الجدل شخصية قيس سعيد، ليشمل النخبة الجامعية بأسرها التي لم تعرف تونس في تاريخها الحديث أحد روادها رئيسا للدولة، ورأسا للسلطة التنفيذية. لتستقر صورتها في معالم النخبة التعليمية والأكاديمية التي قامت بدور في البعث الثقافي والتعليمي والأدبي، ونشر أفكار الحداثة من دون الولوج إلى قصر قرطاج، علما أن اشتداد عود الجامعة التونسية قد بدأ في سبعينيات القرن الماضي، حيث انبثقت النخبة الجامعية التي بدأت تشق طريقها للمشاركة في المجتمع السياسي، وخصوصا في صلب قيادات المعارضة والحراك النقابي.
تاريخيا، ساد اعتقاد بأن طيفا عريضا من الجامعيين التونسيين كانوا أداةً طيعة بيد الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس زين العابدين بن علي، وقد برز عدد منهم في دوائر المستشارين المقربين  شكل بروز قيس سعيد مفاجأة وحدثاً استثنائياً، فتح جدالاً بشأن أهلية "الجامعي" وقدرته على قيادة دواليب الدولةوهياكل الحزب الحاكم والمجالس الاستشارية والنيابية، فانخرط أكثر من أربعة آلاف جامعي خلال تلك الفترة في هياكل الحزب الحاكم. وفي المقابل، كان هناك مشهد أكاديمي مواز تحصن بأسوار الجامعة، ومارس أنشطة جمعياتية مستقلة، غذت معارضة صامتة، وكانت عرضة للحصار والتضييق. ويشهد التاريخ السياسي الحديث لعلاقة الجامعيين بالسلطة بممارسات عديدة للمنع المباشر وغير المباشر لكثيرين منهم من المشاركة السياسية، وصولا إلى الإقصاء والتهميش.
وقد تشكل الحضور الفاعل للجامعيين التونسيين في غمار الحياة السياسية بعيد الثورة مع قيام "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، وهي هيئة تشريعية انتقالية تأسست في 15 مارس/ آذار 2011، بعد اندماج هيئة حماية الثورة واللجنة المؤقتة السامية للإصلاح السياسي. وهي إحدى ثلاث لجان للإصلاح عينتها حكومة الباجي قايد السبسي المؤقتة، وكان الجامعي البارز أستاذ القانون عياض بن عاشور رئيسا لها، والذي استجلب معه عددا بارزا من زملائه من أساتذة القانون، والمدرسين الجامعيين عموما. ما هيأ لحضور لافت لهذا السلك في المجلس الوطني التأسيسي 2011 – 2014 على غرار الأساتذة، عبد اللطيف عبيد وأبو يعرب المرزوقي وفاضل موسى وأحمد إبراهيم ونذير بن عمو وغيرهم.. وهنا خرج إلى العلن قيس سعيد من خلال مشاركات واستشارات إعلامية عن الدستور ومقتضياته. ومع قيام مجلس النواب في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، كان عدد الجامعيين النواب المنتخبين 19 من جملة 217 نائبا، أي بنسبة 14% وجاء ترتيبهم الثالث بعد المحامين وأساتذة التعليم الثانوي. وقد هيأ هذا الوضع لبروز وزراء جامعيين، اختلف الرأي بشأن أدائهم وأهليتهم في الحكومات المتعاقبة، وخصوصا في وزارات التعليم والثقافة والعدل. حيث بدأ يتشكل رأي عام في الساحة السياسية التونسية، مفاده أن هناك من النخبة الجامعية من هو قادر على إدارة الشأن العام، وتفعيل مبدأ الحوكمة الرشيدة. وقد سعت أحزاب فاعلة في تلك الفترة، على غرار النهضة ونداء تونس، إلى استقطاب جامعيين، مستفيدة من إشعاعهم وخبرتهم وقربهم من شباب الجامعة والدوائر الأكاديمية، غير أن ذلك لم يمنع من استمرار تصدر المحامين والحقوقيين المشهد السياسي. ويرى الباحث التونسي، عبد الواحد المكني، هذه الظاهرة تنسحب على مصر والمغرب وفرنسا أيضا.
والملاحظ حاليا استمرار الحضور الكثيف للحقوقيين والسياسيين في مقابل انحسار للجامعيين  "تشكل الحضور الفاعل للجامعيين التونسيين في غمار الحياة السياسية بعيد الثورة"والأكاديميين الذين نادرا ما سجلت لهم مشاركات في الفضاءات الإعلامية والاتصالية. ولذلك شكل بروز قيس سعيد مفاجأة وحدثا استثنائيا، فتح جدلا آخر بشأن أهلية "الجامعي" وقدرته على قيادة دواليب الدولة. وقد وصف محللون هذا البروز رجّةً قويةً داخل مختلف الأوساط، قلبت الحسابات رأسا على عقب، لدى الطبقة السياسية، بطرفيها الحاكمة والمعارضة، حيث وضعتهم أمام مشهد مختلف عما رسموه من سيناريوهات لأحزابهم ولأنفسهم. وقد اعتبر الموقف خطا فاصلا بين عهدين من الممارسة السياسية، تأكد بصعود مرشح آخر، هو نبيل القروي، رجل المال والإعلام والشعبوية. وتجمع العائلة السياسية الوسطية والحداثية على أن الرجلين لا يمثلانها، وترى نفسها مدعوةً إلى إعادة حساباتها ومراجعة استراتيجياتها وبرامجها، حتى لا تشكل الانتخابات التشريعية صدمة أخرى، فاتحة طريقا إلى المجهول، فقيس سعيد المختلف عن فئة السياسيين التي عرفها الشعب التونسي بعد الثورة ليس رجلا سياسيا ولا زعيما حزبيا ولا يتقن المناورة، ويرى السياسة أخلاقا وقيما أو لا تكون، معتقدا أن هناك خللا جوهريا "تجاوز الجدل شخصية قيس سعيد، ليشمل النخبة الجامعية بأسرها"في النظام السياسي القائم، وليس هنالك فائدة تُرجى من الأحزاب القائمة والقانون الانتخابي الحالي. ولم يعرف له برنامج سياسي واضح، فقد بدا، في حواراته النادرة، طوباويا ميالا إلى التنظير، غير ماسك بمعالم مشروع محدّد، ما يؤكد أن رصيده الذي أهله لهذه المكانة الانتخابية يبقى متمثلا في صورته في مخيال منتخبيه، جامعيا نظيف اليد زاهدا في المغانم، مؤمنا بمكانة الدولة ودورها وعلوية الدستور والقانون. وبعيدا عن الأحزاب ومرشحيها للانتخابات التشريعية، يتميز المشهد الحالي بمستقلين كثيرين ساعين إلى عضوية مجلس النواب، من بينهم جامعيون كبرت طموحاتهم بصعود قيس سعيد، مما ينبئ بحضور ملحوظ لهم في المجلس المرتقب، مستفيدين من هجر الناخبين الأحزاب وحسمهم في أدائها وفشل برامجها وزيف وعودها.. وقد ينشئ هذا الحال مشهدا برلمانيا، يصعب معه تشكيل الكتل وتوحيد المواقف في ظل التشرذم والانقسام والاختلاف، ما سيؤدي إلى صعوبة تكوين حكومة متجانسة، وذات برنامج موحد، علاوة على غياب حزام برلماني، يشد أزر رئيس الجمهورية ويسند ممارسته صلاحياته ومبادراته، ناهيك عن برامجه وسياساته. فقد سجل تراجع كبير لمكانة الأحزاب التقليدية الفاعلة، وهو ما عبر عنه زعيم النهضة، راشد الغنوشي، معترفا بصعوبة فوز حزبه بالمقاعد الضرورية التي تمكّنه من تحقيق الأغلبية البرلمانية، وبالتالي من تشكيل الحكومة. كما بدا الحزب التقليدي الثاني، "نداء تونس" في صورةٍ من التشتت قد تصل به إلى الاندثار. وتؤكد الاستطلاعات أن حزب نبيل القروي "قلب تونس" يبقى في طليعة هذه الأحزاب، ما سيمكنه من الفوز، وبالتالي من تشكيل الحكومة. وأمام هذا الوضع الجديد، هل يكون قيس سعيد أول جامعي يحكم قرطاج، ليفتح مجالا جديدا لاعتلاء الجامعيين والأكاديميين سدّة الحكم في تونس؟

 

العربي الجديد

أحد, 06/10/2019 - 10:03