العائلات السياسية الحزبية تُسارع هذه الأيام للتفاعل مع المشهد السياسي الجديد، الذي بدأ يتشكل إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية في دورتها الأولى، على نحو تغير موازين القوى، وسقوط فكرة الأحجام السياسية والحظوظ الانتخابية المسبقة للأحزاب الكبرى، وأشكال التنظم التقليدي المهيكلة. ويبدو مؤكدا أن بروز شخصيات من خارج منظومة الحكم والمعارضة زعزع كيان من راهنوا على الإقطاعية السياسية وتملك السلطة، وهم الآن في وضع تقلصت فيه الخيارات، وتحيط بهم مخاوف الهزيمة الثانية في انتخابات البرلمان المقبلة.
وهنا تكمن أهمية الديمقراطية والاحتكام للصندوق، الذي يحتفظ بأسراره التونسيون، لحظة الإدلاء بأصواتهم، رغم أن بعض الأحزاب التقليدية تحاول الاستفادة من المنجز الثوري الحاصل انتخابيا، وتتملق المساندة لأحد المرشحَيْن للرئاسية في دورتها الثانية، رغبة في كسب تعاطف الناخبين الذين صوتوا للمرشح المستقل قيس سعيد، والاستفادة من أصواتهم في الرهان البرلماني، على اعتبار أن الأخير ليس معنيا بالانتخابات التشريعية ولن يكون متواجدا فيها عكس منافسه نبيل القروي.
ويعد تلقي المحكمة الإدارية طعونا غير جدية تسببت في تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى 13 أكتوبر، رغبة صريحة بأن يتم ترحيل الرئاسيات بعد الانتخابات التشريعية، التي مرت حملتها في جو باهت لا طعم له ولا رائحة، وكأننا بالناخب التونسي يهتم أكثر بمنصب رئيس الجمهورية، رغم الصلاحيات الكبرى التي يمنحها الدستور الجديد للسلطة التشريعية في البرلمان وللحكومة التنفيذية كسلطة منبثقة عنه. وأصر من تقدم بالطعون على طلب الاستئناف، وبالتالي تجاوز التقاضي بخصوصها المرحلة الابتدائية، ولم يعد ممكنا إجراء الانتخابات الرئاسية بتاريخ 29 سبتمبر أو 6 أكتوبر أيضا. وكل هذه المجريات جعلت رئاسيات تونس تطغى على الانتخابات البرلمانية، رغم أن الكثير من التساؤلات تُطرح حول رغبة الخاسرين في تأجيل موعد الاستحقاق الرئاسي. فمن الواضح أنه من مصلحة بعضهم، خاصة منظومة الحكم، التي تتقدم بقوائم للبرلمان، امتصاص صدمة الفشل الذريع والزلزال السياسي الذي أتت به نتائج السباق الرئاسي في جولته الأولى، حيث هزمت جميع الأحزاب بتصويت عقابي، تحاول إثره استمالة الناخب من جديد لتحصيل مكان تحت قبة البرلمان. وبعضهم ينتظر ما ستكشف عنه نتائج التشريعية لبناء تحالفات سياسية .
بروز شخصيات من خارج منظومة الحكم والمعارضة، زعزع كيان من راهنوا على الإقطاعية السياسية وتملك السلطة
الحصيلة الصادمة لمرشحي منظومة الحكم أدخلتهم في حالة ارتباك غير مسبوقة، مع شعور بالخوف من جولة إقصاء ثانية، واستمرار عملية كنس المنظومة الفاشلة من قبل التونسيين، رغم أن حزب النهضة أعلن بشكل مسبق عن دعمه للمرشح قيس سعيد، بدون أن تنتظر قياداته نتائج السباق البرلماني، في الوقت الذي ترددت فيه أغلب الأحزاب بدعم أحد المرشحيْن للدور الثاني. أما التبريرات التي رافقت اعتراف حركة النهضة بالفشل، فإنها لم تقنع أغلبية الرأي العام، من قبيل اعتبار أن ما قاموا به من تنازلات مؤلمة وتضحيات لمنع إفشال المسار الديمقراطي، هي التي ساهمت في انحسار شعبيتهم، وهي كلفة منطقية حسب رأيهم. ولكنها في اعتقادي محاولة لجعل السلوك السياسي الواعي الذي اختاروه في السنوات الماضية وانحازوا فيه للمنظومة القديمة خاضعا للجبر والإكراه وخيارا مفروضا، وهذا غير صحيح، فهو حياد عن الخيار الأمثل وسوء تقدير للموقف السياسي، ومحاولة لاقتسام السلطة والبحث عن منافع فئوية ضيقة لا تتجاوز الحزب وبعض منتسبيه، بما يجعلهم ورثة المنظومة القديمة وحلفائها، تحت سقف التوافقية الانتهازية ومرْكزَة السلطة.
التاريخ السياسي للبلاد يكتب من جديد بعلامات فارقة في الانتقال الديمقراطي، وفي الوقت الذي تكشف فيه صناديق الاقتراع عن ثورة حقيقية بعناوين آليات الديمقراطية الشرعية، تتصدى المنظومة السياسية والبيروقراطية السائدة منذ عقود لهذا المسار، وتتحرك الواجهات الإعلامية والسوق المالية والحزبية للدولة العميقة لتمنع التغيير، وتوقف رغبة فئة كبرى من التونسيين في التحرر من ربقة الاستبداد العتيق أو المقنن، بديمقراطية شكلية بعد الثورة، والقطع مع مختلف أشكال الاستفراد بالسلطة، التي تجسدت في عائلات مالية وواجهات سياسية استمرأت الدولة، وعمقت نفوذها واستفادت تاريخيا، ولم تهتم بمصالح الشعب ومطالبه الحيوية. ومن الجيد أن يتغير الوعي السياسي للشعب ويعلو على المناطقية، على نحو ما حدث للمنظومة القديمة بنسخها الدستورية التجمعية التي تملكت إقطاعيا السلطة السياسية، وجعلتها حكرا على جهة الساحل والحاضرة أو بلْدية العاصمة، ولكنها تلقت عقابا من المدن الساحلية نفسها ومن العاصمة تونس، حيث صوتت هذه الجهات بالأغلبية للأستاذ قيس سعيد رجل القانون المعروف باستقامته، وغير المنتمي للمنظومة السياسية برمتها.
وفي الأثناء تواصل منظومة الحكم التقليدية صراعها الداخلي ويحتد انقسامها بشكل يجعلها عاجزة تماما عن التقارب. واستمرار الخصام وتبادل التهم بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع خير دليل على تبعية هؤلاء لقرار خارجي أو لمراكز قوى داخلية هي نفسها قد تضاربت مصالحها، وأضحت عاجزة عن فرض شخص بعينه وتحييد البقية. وهو معطى يجعل أمثالهم في حال تحصيلهم بعض المقاعد ضمن تركيبة المجلس النيابي مجرد عناصر تأزيم للمسار السياسي الديمقراطي، وسيحاولون تعطيل أي تناغم بين السلطتين التنفيذيتين في حال وصول الأستاذ قيس سعيد إلى رئاسة الجمهورية، خاصة عندما يُعتبَر تسلمه الرئاسة تدشينا لمنظومة حكم جديدة وشرخا للبنية السلطوية المتعاقبة والمعهودة منذ الاستقلال، التي ساهمت في ترذيل الفعل السياسي وترسيخ منظومة حكم متخلفة تحتكم إلى الجهوية والمناطقية ودولة الحزب الواحد.
محاسبة منظومة 2014 بأذرعها السياسية والإعلامية ستتواصل عبر روح التغيير وثورة الصناديق الانتخابية، وهو توجه عقابي لمن حكم البلاد طيلة خمس سنوات وفشل في توفير الخدمات الأساسية للمواطن وتحقيق التنمية والتشغيل وساهم في تدهور الوضع الاقتصادي وعطّل مؤسسات الدولة وأفقدها المصداقية، بشكل أفضى إلى قطيعة بين الشعب ومؤسسات بلاده بفعل المراهقة السياسية والتناقضات الداخلية والصراعات الحزبية المفلسة المضادة لاستحقاقات الثورة ورهانات الجمهورية الثانية. وفي المحصلة يعد بروز ثقافة سياسية جديدة لدى الناخب التونسي خاصة من فئة الشباب تعبيرا صادقا عن حلم متجدد بتونس أخرى مغايرة أساسها الاستقامة والمصداقية وخيارها العدالة الاجتماعية وحفظ كرامة المواطن.
كاتب تونسي
القدس العر بي