أولويات المجتمع المدني الموريتاني في المرحلة القادمة

زين العابدين علي بتيش

كان المجتمع المدني و مازال أحد أهم مظاهر الدولة المدنية و مكوناتها ، وبرز هذا المصطلح _ أو شاع استخدامه على الأصح _ في النقاشات السياسية و الأكاديمية ثمانينات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة ، و يعني النشاطات المجتمعية الطوعية في الجوانب الثقافية و الإجتماعية والتعليمية و حتى السياسية في بعض الأحيان ، بما في ذلك من جمعيات ونوادي و اتحادات وروابط ، أو ما يمكن أن نطلق عليه الحركة الجمعوية المتمثلة في المنتديات الثقافية و الإجتماعية والحركات الطلابية والجماعات الدينية و المؤسسات والمراكز البحثية الغير حكومية و النقابات المهنية ..
ومفهوم المجتمع المدني تطور بتطور واتساع مجال تدخل الجهات غير الرسمية ( المنظمات المدنية ) في الحياة العامة والتأثير فيها ( أحزاب و جمعيات ونوادي ومنتديات واتحادات ... )، هذا التطور الذي حدا بالمفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي إلى اعتبار المجتمع المدني مجتمعا برجوازيا يسعى لتحقيق الهيمنة في ظل سيادة الرأسمالية وفرض أيديولوجية البرجوازية .
وهكذا ظهر المجتمع المدني مرافقا لظهور الدولة المعاصرة مميزا للتنظيمات الإجتماعية الطوعية عن التنظيمات الإجتماعية العضوية ( العائلة _ القبيلة )، و مميزا مؤسسات الدولة عن مؤسسات المجتمع ، أو ما يعرف بالفصل بين الدولة والمجتمع ، هذا الفصل يتجلى في حرية المجتمع في خدمة الصالح العام بكل الوسائل المتاحة من جمعيات و منتديات وروابط ، تقوم على أساسي الطوعية و عدم السعي وراء الربح ، وهي شروط لابد من توفرها ليكون العمل عملا مجتمعيا مدنيا ، ولا يمكن إغفال شروط أخرى عامة لتكوين هذا المجتمع المدني لعل من أهمها ( قيام مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع بشكل منفصل _ التمييز بين آليات عمل الدولة و آليات عمل الإقتصاد أو تشكيل المستويين السياسي و الإقتصادي كحقلين لهما وجود مستقل نسبيا الواحد عن الآخر _ قيام فكرة المواطنة و ما ارتبط بها من فكرة الحقوق المدنية و السياسية ). [ما بين قوسين منقول بتصرف يسير ].

وفي موريتانيا ظهر المجتمع المدني مع تأسيس الجمهوية ما بعد الإستقلال ، كأحد أهم مظاهر وجود الدولة ، بيد أن هذا المجتمع المدني لم يكن سوى انعكاس للمجتمع التقليدي الذي جاء للتو من الحياة التقليدية أو ما يعرف بالمجتمع البدوي .
وكان أول ما ظهر من مؤسسات المجتمع المدني في موريتانيا _ على حد علمي _ النقابات المهنية بما فيها النقابات التي تمثل العمال ، تلك الشريحة ذات الأهمية الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية .
و ظهرت كذلك اتحادات الطلاب في فترة تشبعت الساحة الجامعية بالأيديولوجيا لحظة المد الشيوعي ، و التيارات الوافدة بما فيها التيار الإسلامي و البعثي و الناصري ، تلك الإتحادات التي ستخرج لنا في فترة لاحقة زعامات سياسية سترسم المشهد السياسي لموريتانيا .
وظهرت الجماعات الحقوقية المدافعة عن حقوق المرأة و الطفل و الطبقات المهمشة ، و المناضلة ضد العبودية ، بيد أن أقوى حركة حقوقية في تاريخ موريتانيا لم تظهر إلا ما قبل سنوات من الآن ، حركة إيرا ، تلك الحركة التي هزت الساحة الإجتماعية والسياسية لموريتانيا
مطلع 2011 انطلقت الشعوب العربية في تظاهرات عرفت بثورات الربيع العربي ، و وصل صداها إلى موريتانيا 2012 فانطلقت المعارضة الموريتانية في حراك ضد السلطة منادية برحيل النظام ، وفي خضم هذا الحراك السياسي فجرت حركة إيرا الحقوقية مفاجأة من العيار الثقيل ، بإحراقها لبعض الكتب الفقهية في خطوة رمزية ، تهدف من ورائها لضرب منظومة القيم  المؤسسة لممارسات العبودية ( حسب رأي إيرا )، فاهتز الوجدان الشعبي لهذه الحادثة ، و ساعد في ذلك التهييج الإعلامي الذي قام به الإعلام الرسمي ، فخرجت تظاهرات مطالبة بالقبض على الإيراويين القائمين بهذا الفعل ، يومها نسي الشعب التظاهرات التي دعت لها المعارضة ، و أصبح شغله الشاغل الحديث عن أهمية الفقه المالكي و الإنتقام لهذا المذهب الفقهي التليد .
لم يتوقف المجتمع المدني في جانبه الحقوقي عند هذا الحد بل واصل مسيرته وقام بتوسيع نشاطه ليشمل الفعل السياسي ، متجليا في دخول بعض الحقوقيين القبة البرلمانية ، و حلولهم في المرتبة الثانية في الإنتخابات الرئاسية
وهنا أتساءل ما هي أولويات المجتمع المدني الموريتاني في المرحلة القادمة ؟
من الصعب الحديث في هذه الورقة عن أولويات للمجتمع المدني في موريتانيا لتنوع هذا المجتمع و تعدد مجالاته ومؤسساته ، بيد أنه يمكن الحديث عن خطوط عامة لايمكن تجاوزها في المرحلة القادمة ..
 _ ففيما يتعلق بالنقابات المهنية لعل من أهم أولوياتها الضغط لرفع رواتب العمال و الضغط أيضا من أجل أن تكون ساعات العمل أسبوعيا لا تتجاوز الساعات التي حددها القانون ، فإذا تم تجاوزها وجب التعويض للعامل ، وكذلك السعي لإنشاء اتفاقات جماعية جديدة مع أرباب العمل تمنح حقوقا أكثر للعمال الموريتانيين .

_ وفيما يتعلق بالحركات الحقوقية : كشف المزيد من حالات العبودية و العمل على إحقاق الحق و محاربة كافة مظاهر الإستعباد مهما كانت ، ورفض تشغيل الأطفال خاصة في الأماكن التي تشهد إصلاح السيارات ( و يتعرض الأطفال هناك لمعاملات مهينة و تشغيل من طرف من يقولون أنهم ضحايا العبودية ، فيجب عدم الكيل بمكيالين ، فمن يشكو من مخلفات العبودية لا يصح أن يمارسها او يمارس التشغيل الجبري للأطفال )
كذلك يطلب من الحركات الحقوقية أن تخفف من الخطاب التصادمي الذي يزيد من الإحتقان بين مكونات المجتمع و يسبب التفرقة بين مختلف فئاته .
_ أما النقابات الطلابية فأهم أولوياتها في المرحلة القادمة فرض التعليم للجميع و إسقاط القرار الباطل _  باطل من حيث المشروعية ( غياب الأخلاقية و غياب رضى المجتمع ) وليس بالضرورة الشرعية ( استنفاذ الإجراءات القانونية ) _ بإقصاء مواليد ما قبل1994 من دخول الجامعة .
_ و أما المنتديات الشبابية و الرياضية فأهم أولوياتها في المرحلة القادمة يجب أن تكون دعم المواهب الشبابية وتشجيعها ، و منح الفرص لها لإبراز ذواتها : فكريا و ثقافيا و رياضيا واجتماعيا ، وذلك عبر إنشاء مخيمات شبابية أثناء العطل المدرسية للتدريب على الأنشطة الثقافية من مسرح و إلقاء و كتابة و شعر و رياضة ، و ذلك لأن أصحاب هذه المواهب وغيرها هم بناة موريتانيا الغد .
_ أما الجمعيات المهتمة بالبيئة فيجب أن تكثف نشاطاتها التوعوية في أهمية الحفاظ على بيئة نظيفة سليمة من التلوث و تحذير الأهالي من رمي النفايات في الشوارع وتكديسها بل وحرقها أحيانا .
يجب أن تساهم هذه الجمعيات في الحد من ظاهرة الإضرار بالبيئة التي يقوم بها البعض ، و أن تساهم في برامج تثقيفية و أنشطة توعوية في مختلف بلديات العاصمة للتأكيد على خطورة رمي القمامات في الشوراع و للتأكيد على أهمية النظافة ، وتعتبر هذه الأولوية من أهم الأولويات في موريتانيا و أكثرها حساسية و إن كانت النظافة تتعلق بثقافة الشعب و لا يمكن للوعظ والمحاضرات أن تغير من الأمر شيئا إن لم تتغير العقليات . 

اثنين, 23/09/2019 - 12:36