العمل الخيري في موريتانيا .. فوضوية و ابتذال

زين العابدين علي بتيش

لم يكن الموريتانيون يعرفون العمل الخيري الجماعي ما قبل ظهور المجتمع المدني أحد أبرز مظاهر الدولة المعاصرة .
و منذ عقد أو يزيد قليلا و الجمعيات الخيرية في طفرة منقطعة النظير ، حتى وصل الأمر إلى أن أضحت أقرب لموضة ، فسلب العمل الخيري محتواه و أصبح أقرب للإبتذال ، وذلك بسبب الفوضوية التي شهدها هذا العمل ، و كثرة المبادرات الخيرية العاطفية التي لم تنطلق من مخطط إداري بقدر ما قامت على أساس عاطفي لا علاقة له بوظائف الإدارة ولا المؤسسية ، فأصبحت المؤسسة الخيرية ضحية الفوضى و العشوائية ، و هو ما أدى لفقدانها نجاحها و سقوطها في مهاوي الفشل والتلاشي .
لم يعد إنشاء جمعية خيرية أمرا جديا يتطلب مجموعة من الفاعلين الخيريين المؤمنين بنبل الهدف ؛ بقدر ما أصبح عملا بسيطا ، يمكن أن يقوم به أي شخص تجمع رفقة مجموعة من الأشخاص المهوسين بالشهرة والباحثين عن أمور لا علاقة لها بالفعل الخيري ، ورافق ذلك فوضوية منقطعة النظير ، تلك الفوضوية في التأسيس للمبادرة الخيرية التي أضحى تأسيسها مثل فتح الدكاكين في الحارات أسهل شيء .. ( يكاد يخلو منها منزل أحرى حارة ) ، و هو ما أفقد المبادرة قيمتها و أهميتها فأصبحت مبتذلة ،( وبالعودة للدلالة اللغوية لكلمة مبتذل نجد أن ( مُبتَذَل: (اسم)
مفعول مِن اِبْتَذَلَ
يَلْبَسُ ثَوْباً مُبْتَذَلاً : بَالِياً ، مُمَزَّقاً
خَاطَبَهُ بِكَلاَمٍ مُبْتَذَلٍ : بِكَلاَمٍ سَفِيهٍ خَادِشٍ لِلْحَيَاءِ
أُسْلُوبٌ مُبْتَذَلٌ : كَثِيرُ الاسْتِعْمَالِ ، مَأْلُوفٌ ، مُتَدَاوَلٌ ) ، الشاهد هنا : " أسلوب مألوف متداول " ) ، هذا الإبتذال جرد المبادرات الخيرية من تأثيرها ، و إلى ذلك وصلت الفوضوية لجوهر العمل الخيري ، فغاب التخطيط و التنظيم والتنسيق والرقابة و هي وظائف لابد من توفرها في أي عمل جماعي ليكون إداريا ناجحا .
وتجلى غياب التخطيط في العشوائية التي يشهدها هذا العمل ، حيث لا ينطلق القائمون عليه من خطط منظمة معدة سلفا بقدر ما ينطلقون من عاطفة جامحة أحيانا ، أما غياب التنظيم فتجلى في تداخل المهام بين هيئاته ، فلا توجد مبادرات متخصصة إلا ما ندر ، باستثناء جمعيات قليلة .. وغياب التنظيم تجلى أيضا في عدم تحديد المهام و الوظائف للقائمين على هذه المبادرات بشكل دقيق ، وفي تداخل و اشتباك الأهداف ( هل يستهدف هذا العمل اليتامى أم مرضى السرطان أم أطفال الشوارع أم السقاية ؟ )
وأما التنسيق فغاب في المبادرة و في علاقاتها بغيرها من المبادرات ، إذ لابد من التكامل لسد الخلل والنواقص ، وغابت الرقابة عن هذا العمل ، الذي يشهد تلاعبا منقطع النظير بعواطف الفقراء و تصويرهم بطريقة فجة لا تخلو من استفزاز و استخدام هذه الصور من أجل " المجد الشخصي " أو غير ذلك في حالة الشخصيات الإعتبارية ( أغراض سياسية مثلا )
صحيح أن تصوير عملية وصول المساعدات إلى مستحقيها أضحت جزءا لا يتجزء من الحياة الحديثة ، ولم يعد الأمر يتعلق بالرياء إذ أن العمل الجماعي المعاصر يتطلب التواصل الإفتراضي و المشاركة على الوسائط الإجتماعية ، ولم يعد من الممكن إضفاء السرية على هذا العمل لطبيعة المرحلة التي تعيشها البشرية، ولجماعيته ، ومن أجل أن يشارك الآخرون في هذا العمل الإنساني النبيل ، لكن بالمقابل لابد من تصوير يليق بسمو اللحظة الخيرية ، تصوير لا يظهر المستهدفين بمظهر البائسين ، فالمستهدفون بشر ، و لقد كرم الله تعالى الإنسان ( ولقد كرمنا بني آدم ...) ، فهل يعقل أن من كرمه الله تعالى تأتي المبادرات الخيرية لتظهره بمظهر الذليل الفقير المهان !
رافق المبادرات الخيرية كذلك استغلال منقطع النظير لعاطفة المرأة ، فزج بالفتاة في عمل مرهق لها و أدخلت _ أو أدخلت نفسها _ في متاهات النشاطات الخيرية ( سفر من أجل سقاية في ضواحي العاصمة ) مع شباب أجانب عليها ، وكان بإمكانهم أن يقوموا بهذه المهمة لوحدهم فما الذي جاء بالفتيات و النساء إلى هذه الضواحي ! يمكن أن يجادل شخص بأن المرأة حرة ولا وصاية عليها و تعرف ما تفعل جيدا ، وأرد على هذا بأن القضية تتعلق بفقه الأولويات ، و أولوية المرأة والفتاة ليست دخول المناطق الخطيرة من العاصمة و البحث عن سكان أنهكهم العطش ، فهذه وظيفة الدولة و هي المعنية بتوفير الماء والكهرباء للشعب ، إن أولوية الفتاة التركيز على دراستها و النهل من المعارف لتكون قادرة على المساهمة في بناء منظومة حكم عادلة من أجل توفير الرفاهية للشعب و القضاء على الفقر من أساسه ، حتى لا نظل أمام حالات من البؤس تتغذى عليها الجمعيات والمبادرات المثيرة للريبة .
أذكر أنه ذات مرة اتصل شاب على شاب أعرفه وكان هذا الأخير معي ذلك الوقت فأخبره بأنه توجد مبادرة خيرية بها فتيات " جميلات " من تخصص دراسي معين ، و أنه لابد ان يحضر و أن يساهم في هذا العمل ، شعرت بالأسف لهذه الطريقة المتخلفة التي يفكر بها بعض شبابنا ، و التي ينظرون بها للعمل الخيري ، وعرفت أنه طالما شبابنا يفكرون بهذا الأسلوب فإن العمل الخيري فرغ من محتواه ، و أضحى واجهة لمآرب أخرى لا علاقة لها بنبل هذا العمل وقدسيته وسموه ، يومها كتبت تدوينة على صفحتي في فيسبوك معبرا عن أسفي على واقع العمل الخيري و فيها : " الموريتاني حيث هو مولع بالتقليد ، مهوس بالمحاكاة ، ولذلك فإن أي فكرة إبداعية لشخص وجدت طريقها سالكا للنجاح ،  تصبح في ظرف وجيز فكرة كل الشعب ، بغض النظر عن عمقها و فائدتها على المجتمع و أبعادها ، وفي ضوء هذا تأتي المبادرات " الخيرية " التي تعد بالمئات بينما إنجازها الفعلي أقرب للاشيء
والمؤسف أنها أضحت ميدانا للإختلاط الغير مبرر ، والتصوير المستفز للفقراء ، و البحث عن الشهرة ، ( ... ) وليتهم عطفوا على هذا المجتمع و رحموه من هذه الترهات والتصوير الغير إنساني للفقراء و إظهار امتنانهم ، وليتهم يضعون حدا لهذا الإستفزاز المتواصل لطيبة هذا الشعب والتلاعب بعواطفه .. فإن للفقراء كرامة يجب أن تحترم ، وإن للشهرة ميادين أخرى فيها متسع للباحثين عنها والراغبين فيها ..والسلام " .
بعد هذا السرد لمظاهر الفوضى و الإبتذال في العمل الخيري الموريتاني أتساءل هل سيظل هذا العمل النبيل ضحية هذه الممارسات المتنافية مع مبادئه و أهدافه النبيلة أم أن السيل بلغ الزبى ولا يمكن تدارك هذه الأخطاء  ؟
لعل الأيام تجيب على هذا السؤال حين تتطور عقلية الموريتاني و يدرك أن العمل الخيري ليس مجرد لعبة أو مغامرة للترفيه عن الذات أو صناعة المجد الشخصي ، بل هو عمل عظيم مقنن بقوانين تحكمه ، و نظم ترسم طبيعته ، و فعل جماعي منظم بكل ما تعنيه كلمة التنظيم من معنى ، له مبادؤه و أهدافه ووسائله ، خدمة للإنسان و تأكيدا على تعاليم القرآن .. " و افعلوا الخير لعلكم تفلحون .. " .

سبت, 07/09/2019 - 13:11