"اليسار" والدين والتّدين

عبد الله بيّان

في كتابه الأخير عن "الهوية"، يرى عالم السياسة الأمريكي فرانسيس فوكوياما بأن سياسيات "اليسار الجديد" في أمريكا وأوروبا هي ما ساهم في صعود اليمين. وأن "الهوية"، نتيجة لمكانتها العاطفية عند أصحابها وارتباطها بالإساءة والظلم التاريخي، تفرض على السياسيين تجاهها أخذ موقف حدّي واضح وحاسم. وهكذا أدّى تنامي الهويات الفرعية داخل هذه البلدان في المحصّلة إلى بروز اليمين كمدافع عن الهوية الوطنية الجامعة. حيث يقول بأن اليسار الْيَوم قد تخلى عن الفئات التي دافع عنها طويلًا؛ "فلم يعد معنيًا بحقوق العمّال أو العدالة الاقتصادية، واختار بديلًا عن ذلك حقوق الفئات المهمشة من المثليين والأفارقة وغيرهم". وأن هذا الاتجاه نجم عنه "تحوُّل فئات اجتماعية بأكملها، كانت تمنح صوتها لليسار فيما مضى، لدعم الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة والأحزاب اليمينية في أوروبا الغربية".

وإذا كانت قضايا الهجرة وحقوق المسلمين والمثليين والمهمّشين، نتيجة لطبيعتها الحدّية وعلوّ صوتها الإعلامي والمظلمي، قد غطت على بقية سياسات اليسار في مطلب العدالة الاقتصادية، وبدأ ذلك يصرف أطيافاً من الفئة الكادحة عن برامجه في دول الغرب وبعض دول الشرق (كالهند وغيرها)، فإن حركات اليسار في العالم الإسلامي ظلت في الماضي والحاضر تعاني من مشكلة سياسية هويّاتية مشابهة.

فعلى الرغم من الأوضاع المزرية للعمال، والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي الكبير في بلداننا، لم تستطع حركات اليسار أن تستقطب قوى شعبية واسعة تتناسب مع متطلبات هذا الواقع، بسبب كون الجانب الهوياتي في طرحها السياسي ظل شديد الصّخب، وأدت صداماته مع الدين والتدين في هذه المجتمعات المسلمة المحافظة إلى صرف الكثيرين عن بقية رؤاه السياسية الإيجابية.

ولا يكمن الخلل هنا في تجاهل بعض منتسبي هذا التيار لكون الدين الإسلامي هو صاحب "أكبر ثورة اجتماعية في التاريخ" (حسب تعبير القيادي اليساري الدكتور محمد ولد مولود)، وظهورهم في خصومة مع ما يعتبر حاضنة ورافعة لأي "قيم يسارية" حقيقية، وإنما في الانشغال بصخب الهوية وصداماتها بعيداً عن أولويات هذه البلدان في العدالة ومحاربة الفساد والفقر والاستبداد.

(لي عودة مفصلة، بحول الله، لموضوع الهوية، وللدور المحتمل للتيار الحقوقي واليساري في صناعة اليمين)

خميس, 05/09/2019 - 12:34