ملاحظات عابرة من تونس بانتظار الانتخابات الحاسمة

عبد الحميد صيام

للمرة الخامسة أحط الرحال في تونس بعد ثورة الياسمين. وقد ألفت الكتابة عن تونس ما بعد الثورة وعن الديمقراطية الوليدة، التي رغم ما اعتراها من مطبات ومؤامرات وتدخلات، إلا أنها ظلت مستمرة، تترنح لكن لا تسقط، مع أن عدد المشتغلين على تخريبها من الخارج مع حلفائهم من الداخل ما فتئوا يأتون بكل جديد في علم إسقاط الثورات، أو تعطيلها، أو كيفية فض الجماهير عنها.
وأسهل الطرق إلى تعثر الثورات هو ضرب الاقتصاد ونشر الفوضى والتطرف والإرهاب، فيتكون شعور لدى الغالبية بأنهم مهددون في أرزاقهم وأمنهم، فما يلبث الناس أن يلعنوا اليوم الذي جاءت فيه الثورة وينضموا للناعقين على الأيام الخوالي، بما كانت تمثل من استقرار وأمن ورزق كريم حتى لو كان قليلا.
وللأمانة والتاريخ أنني وجدت هذه المرة قلقا لم أعهده من قبل، ولم ألتق بأحد إلا وجدت لديه رزمة من الشكاوى حول الأوضاع المعيشية والفساد وضياع البوصلة، وتراكم المشاكل والتوجس من تكرار العمليات الإرهابية. وسأحاول في هذه العجالة أن أمر على بعض الهموم والمشاهد التونسية، والبلاد على أبواب انتخابات حاسمة برلمانية في أكتوبر/تشرين الأول ورئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني.
أطبق الصمت على الوضع الصحي لرئيس البلاد عند دخوله المستشفى مساء الجمعة 21 يونيو. الصمت يفتح المجال لتسريب المعلومات الموجهة من جهة، وانتشار الإشاعات من جهة أخرى. فقد انتشر كثير من الهمس حول حقيقة صحة الرئيس المسن الباجي قائد السبسي، الذي دخل المستشفى ولم يسمع أحد تقريرا مفصلا عن أحواله الصحية لعدة أيام، ما أتاح فرصة لانتشار شائعة وفاته، وصمت جهاز الدولة عن هذه الوفاة لأسباب تتعلق بأمن البلاد. انتهت الشائعة بعد ظهوره العلني بعد نحو أسبوع من وعكته المفاجئة. لكنه ظهر ضعيفا وشاحبا حيث اجتمع فيه العضوضان: السن والمرض. لقد تماثل للشفاء في الوقت المناسب ليوقع الدعوة للانتخابات قبل آخر موعد بيوم واحد، حيث تنفس التوانسة الصعداء. كل ما يتمناه التوانسة أن يبقى في وضع صحي سليم يتيح له أن يسلم الأمانة للرئيس الذي سينتخب في الدورة المقبلة. الحقيقة أن غالبية التوانسة ممتنون للرئيس السبسي لأنه، كما يقولون، أنقذ البلاد من حالة انقسام خطيرفي انتخابات 2014. كان إطلاق حزب «نداء تونس» قارب النجاة الذي ضم كل التحالفات الليبرالية واليسارية والوطنية والقومية التي لا تريد أن ترى حزب النهضة يحصد غالبية المقاعد في البرلمان، أو يفوز بالانتخابات الرئاسية. لا أحد يريد أن يستبعد النهضة، ولكن لا يريدها أن تجلس وراء مقود القيادة بعد تجربة الترويكا التي أدخلت البلاد في حالة من الفوضى والشلل، وتغول التطرف وانتشار الإرهاب، وأضافت حادثتا اغتيال شكري بلعيد ومحمد براهمي عام 2013 شعورا حقيقيا بالخطر المحدق بالبلاد. لا أحد يتهم حزب النهضة مباشرة بتدبير عمليتي الاغتيال، لكن لا أحد ينفي أن الجو العام الذي نشأ في تونس، أثناء قيادة النهضة للبلاد، ساهم في خلق الأجواء المواتية لانتشار الفكر المتطرف ونشاط المتطرفين واستهداف الحكومة والمواطنين والسياح. البلاد تعيش الآن مشهدا قريبا من أجواء انتخابات 2014، لكن حزب «نداء تونس» الذي أنشأه السبسي لوقف تقدم النهضة تبعثر، ولا أحد يعتقد أن الشاب عديم الخبرة يوسف الشاهد وحزبه الجديد «تحيا تونس» قادران على ملء الفراغ الذي سيخلفه غياب السبسي عن المشهد.
الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، حديث كل الناس في تونس. ولم أر منذ عام 2011 انقساما في الشارع التونسي مثلما لمسته هذه المرة، لكن هناك شبه إجماع على أن هناك تدخلات خارجية وأموالا تتدفق على بعض الأحزاب والشخصيات، بل إن من أكد لي أن أموالا تدفع للأحزاب المتناقضة، وكأن الهدف تقسيم الساحة التونسية وتعميق التناحر كي يكفر الناس بالديمقراطية. وقد كرر أمامي أكثر من شخص بأن الديمقراطية ليست لنا، وما نحتاجه «رجل قوي يحكم البلاد بحزم». وكثيرون الآن يترحمون على أيام زين العابدين بن علي. «كانت البلاد تشعر بالأمن والأمان، وكان رزق العباد متوفرا حتى لو كان قليلا»، قال لي صديق خبير في المشهد التونسي. صوفيا همامي، الصحافية المخضرمة والعارفة ببواطن الأمور، تعتقد أن عبير موسى هي أقوى من كل المرشحين والمرشحات، لكن ليس لها حظ في الفوز بسبب كثرة أعدائها من جهة ورجحان الكفة للعقلية الذكورية. عبير موسى لا تخفي انتماءها لابن علي، وهي امتداد لحزب التجمع الدستوري بمسمى جديد «الحزب الدستوري الحر». ويؤكد مناصروها وهم كثر على أنها لا تريد إعادة إنتاج تجربة بن علي، لكن الاستفادة من إيجابيات تلك المرحلة، خاصة الاستقرار وضمان حد أدنى من الدخل واستعادة قوة الدينار التونسي، الذي يشهد أدنى سعر صرف مقابل اليورو والدولار.

هناك شبه إجماع في تونس على أن هناك تدخلات خارجية وأموالا تتدفق على بعض الأحزاب والشخصيات

لكن شخصية عبير موسى تثير الكثير من التساؤلات، وحيثما تذهب تتعرض للصراخ والطرد ومنعها من تدشين مقر لحزبها، كما حدث في المهدية والقلوبية وسيدي بو زيد وغيرهما. لكن هناك من يريدها رئيسة لتونس لجرأتها ووضوح برنامجها. «إنها أفضل من يقود تونس إلى بر الأمان»، قال صديق تونسي. إنها تختزن تجربة بورقيبة وبن علي، وتضيف شيئا من عندها حول الديمقراطية والتعددية، ولا تؤمن بالحزب الواحد الأحد». لكن صديقا آخر كان يشارك في النقاش قال «سأصوت للنهضة مع أنني لا أحبهم، عامدا متعمدا ضد عبير موسى، التي تريد أن تطيح بالثورة التي قام بها الشعب التونسي ضد الفاسدين، على طريقة مصر واليمن وليبيا وتعيد إنتاج نظام بن علي. أريدها أن تعرف أن ثورة تونس لا تشترى بالمال». ويقسم هذا الصديق أن أموالا خليجية تصلها بدون حساب لإجهاض الثورة التونسية، ليس لها فقط بل لقنوات فضائية وأحزاب وشخصيات ومرشحين. الكل يحاول أن يؤثر على الداخل التونسي، أضاف الصديق قائلا، بل إن نجيب الشابي رئيس الحزب الجمهوري المعروف بالتوجهات اليسارية دافع عن تلقي أموال من الإمارات على التلفزيون قائلا: «الإمارات تدفع الفلوس ليس لإسقاط تونس، بل لإسقاط النهضة».
يتنافس على الانتخابات التشريعية نحو 217 حزبا، أما عدد المتنافسين على الرئاسة فلا أحد يعرف العدد الحقيقي، لكن المعروف أنه لا يوجد مرشح قوي يجمع الناس حوله. والناس غير مقتنعين بقيادة يوسف الشاهد وحزبه «تحيا تونس» المدعوم أيضا من فرنسا وأمريكا ودول الخليج. فالشاهد محليا يلام بشكل رئيسي على تدهور الاقتصاد وتراجع الخدمات وانتشار الفساد وغسل الأموال.
يوم الخميس 27 يونيو فجّر شاب انتحاري نفسه في دورية للشرطة في شارع شارل ديغول بالعاصمة تونس سقط على أثر الحادث الشاب عبد الكريم لخضر (41 سنة) وهو أب لخمسة أطفال، كما أصيب أربعة أشخاص. ولحق بالتفجير الانتحاري الأول تفجير ثان أمام مقر شرطة، أصيب على أثره أربعة بجروح. وظاهرة العمليات الانتحارية ما زالت تثير حيرة المسؤولين والناس جميعا، لأنها ظاهرة غريبة على الشعب التونسي المسالم الحضاري، فكيف استطاع هؤلاء الدواعش غسل دماغ عدد كبير من الشباب والشابات، لدرجة تجنيد فتاة مثل منى قبلة لتكون أول بنت تقوم بعملية انتحارية في شارع الحبيب بورقيبة في 29 أكتوبر الماضي. التفسيرات متضاربة وكل من تسأل يعطيك تفسيرا يعكس توجها سياسا. فمعارضو حزب النهضة والساعون إلى إقصائها يؤكدون أن هذه العمليات رسالة بليغة مفادها: «هكذا سيكون الرد لو أقصيت النهضة من الحكم. ستدخل البلاد مرحلة الفوضى على الطريقتين الليبية واليمنية». وتفسير آخر يلقي اللوم على أعداء الديمقراطية في الخارج، الذين يريدون أن يبلغوا الشعب التونسي أن الحل الأمثل لمشاكل بلادهم في وجود حاكم قوي، وأن الديمقراطية تجلب الفوضى، ويسأل هؤلاء هل كان يحصل مثل هذا في عهد الزين؟ أما معارضو حكم يوسف الشاهد، والذين يحملونه مسؤولية كل علل البلاد الاقتصادية يرون أن التهميش والفقر مع الجهل هي الخلطة المثالية لتجنيد مثل هؤلاء لارتكاب عمليات انتحارية على أمل الخروج من فقر الدنيا إلى حور الجنان ونعيمها. وما يخشاه التونسيون أن مثل هذه العمليات الانتحارية قد تزداد كما وكيفا مع اقتراب الانتخابات.
جميل أن يشاهد الإنسان مع التوانسة مباراة يلعب فيها الفريق الوطني، كما حدث مساء الاثنين الماضي. إنها ساعة للفرح عاشها الشعب عندما فاز نسور قرطاج على فريق غانا العنيد. التوانسة يعشقون الكرة. يتركون همومهم وخلافاتهم ومشاكلهم ويلتفون حول الفريق الوطني. الفرق بينهم وبين بقية الدول العربية أن الفريق ومدربه لا يلعبون ليرضوا الحاكم أو طمعا في هداياه، بل لإرضاء الشعب التونسي كله والجماهير العربية التي تحب تونس وتعشق فرقها الرياضية. الشعب التونسي متحد في أمنيته بفوز تونس على مدغشقر وفوز الجزائر على ساحل العاج وأن تكون مباراة البطولة النهائية بين الجزائر وتونس «وعندها لا يهم من يكسب فنحن والجزائر إخوان» قال لي أستاذ جامعي. قد لا يوجد شعبان عربيان يحبان بعضهما بعضا فعلا مثل الشعبين الشقيقين والجارين اللذين وقفا مع بعضهما بعضا في حلو الأيام ومرها.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

القدس العربي

جمعة, 12/07/2019 - 10:46