ذكريات كفيف مع الكتب! رحلة عمر من خط الزمن

محمد محفوظ أبو شمعة

ربما كنت يومها في الرابعة أو الخامسة، المهم أن الظلام لم يغز بعد
عيْنَي كان الهلال الأحمر وزَّع على الناجين من "سيل أطار" بسكويتا
ومكسرات، وكانت معلَّقة في "مخلة" من "زازو" في مسمار قرب المصحف،
الموضوع بدوره على "طرنَّه" في منتصف الجدار المقابل باب الحجرة الكبيرة
في بيتنا الطيني. كان جدي رحمه الله كلما أراد أخذ المصحف ليقرأ فيه وأنا
أتكور بين قدميه أخذ من البسكويت وأعطاني.
وهكذا كان اللقاء الأول بيني وبين ذلك الجسم العجيب "بافلوفيا" فقد
ارتبطت المكافأة عندي بظهوره. وتمر الأيام ويجتاح الظلام المدى عازلا
بيني وبين ذلك السحر العجيب. وهنا ينحت خيال الطفل البريء للمعبود
المفقود صورة من حلم ضائع قوام الروح في الركض خلف خيالاته المتلاشية.
فهو صندوق العجب المحتوي على ما يبوح بالسر الدفين.
فرحة أول لقاء:
ربما كان ذلك في التاسعة أو العاشرة؟ كانت يومها صدوع ضياء الطموح قد
بدأت تظْهر على جدار اليأس والاضمحلال مرسلة إياه إلى فضاء التلاشي.
ويومها  كان مسلسل عروة ابن الورد ومسلسل فارس ابن حمدان والفضيلة
لمترجمها المنفلوطي هي  الحدث في إذاعة موريتانيا، وكان الأثر البافلوفي
الثاني: فإلى الآن كلما سمعت الآذان في إذاعة موريتانيا توقعت لا إراديا
أن ينطلق بعده صوت "بول" وهو يحدث "فرجيني" عن رحلة السفينة الغارقةوهي
تقول له: "لا تكمل، لا تكمل.  ... ولكن كيف؟ وأين ذلك الفجر المنشود؟ إنه
كما قالت والدتي في الكتاب، وهنا تتداعى الذكريات وينهار جدار الفصل ويقع
اليقين.
السرقة المباحة:
وهي فعلا سرقة، فقد صطوتُ على محفظة أمي رغم عدم تقصيرها معي، ولكنها
نشوة الحصول على المرغوب دون رقيب. وانتهى الكنز المسلوب في يد أمين
المعهد التربوي مقابل ما ملأ "شاريت" من الكتب.
كثير منها ضاع وكثير أشعلت به جدتي النار وأكثر لا أعرف عنه شيء وقليل
وجدت من يقرأه لي.
ولكن أنا الآن أعي قيمة كنزي، غير أني أجهل محتواه.
وهنا بدأت رحلة الاستكشاف (خلع القناع):
كان ذلك يوم لمست الحروف: نعم، وأدركتُ أن للمدى تجلي يوحي للروح بما
للمادة من جفاف. "طريقة برايل" وكان الأمر ساحرا خارقا للحدود مع
"التقنيات المساعدة للمكفوفين" حينما تحوَّلَ الجهاز من آلة صماء إلى عين
للكفيف.
ومِن يومِها أبحر في عوالم الحرف، خالقا ومخلوقا ومراقبا لعملية الخلق.
 

اثنين, 22/02/2021 - 09:45