التلويح بالحرب استثمار أميركي رابح

 سوسن جميل حسن

ردّت الولايات المتحدة على إسقاط إيران طائرة استطلاع أميركية من دون طيار فوق مضيق هرمز بشن هجمات إلكترونية استهدفت أنظمة حاسوبية إيرانية تستخدم لإطلاق صواريخ، وعلى شبكة تجسّس إيرانية، بعد أن كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد عدل، في الدقائق الأخيرة، عن توجيه ضربة عسكرية إلى إيران. وكتبت صحيفة واشنطن بوست أن هذه الهجمات السيبرانية قد تم التخطيط لها منذ أسابيع عديدة. وكان الجيش الأميركي قد اقترح شن هذه الهجمات على الأهداف الإيرانية ردًا على استهداف ناقلات النفط في خليج عُمان في الفترة الماضية، بعد أن كانت الولايات المتحدة قد اتهمت الحرس الثوري الإيراني بالقيام بها. وهذا يعيد إلى الذاكرة ما حصل في العام 2010، عندما اتهمت إيران كلا من الولايات المتحدة وإسرائيل بأنهما أطلقتا فيروسًا إلكترونيًا "ستانكست" أصاب آلاف الحواسيب الإيرانية، وعطّل أجهزة الطرد المركزي التي كانت تستعملها إيران في تخصيب اليورانيوم، في أوج الأزمة الناجمة عن برنامج إيران النووي. 
لم يكن برنامج إيران النووي وليد مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية، فهو يعود إلى عهد الشاه حليف الأميركان، إذ وقع مع الولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية في العام 1967 اتفاقية لتوريد اليورانيوم المخصب والبلوتونيوم، وتأسس في تلك المرحلة مركز طهران للبحوث النووية بدعم من الولايات المتحدة، وبعد أن وقعت إيران على معاهدة الحد من الأسلحة النووية، أعلن الشاه رضا بهلوي عزمه على بناء أكثر من عشرين مفاعلاً نوويًا وفق خطة يتم إنجازها في نهاية التسعينات حلا استباقيا لمرحلة ما بعد النفط، أكد حينها أن إيران لا تسعى إلى امتلاك سلاح نووي. ولكن إذا بدأت دول صغيرة في امتلاك هذا السلاح، ستعيد إيران النظر في سياستها، علمًا أن إسرائيل التي لا تصرح إلى الآن بحيازتها السلاح النووي، كانت قد وقعت مذكرة تفاهم أشكول- كومر مع الولايات المتحدة في مارس/ آذار 1965، والتي تتضمن للمرة الأولى تأكيدا إسرائيليا مكتوبا بأنها لن تكون أول من يدخل السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط، لكنها ترفض التوقيع على معاهدة الحد من الانتشار النووي، على الرغم من الضغوط الدولية عليها للقيام بذلك، وتذكر أن التوقيع على معاهدة الحد من الانتشار النووي سيكون مخالفا لمصالح أمنها القومي. 
كل هذا النشاط في المجال النووي، بغض النظر عن مجال استخدامه، حدث عندما كان النظام  "وجود عدو لأميركا اسمه إيران يشكل بالنسبة لها بئرًا غزيرًا يتدفق في خزينتها"الإيراني حليفًا للولايات المتحدة والغرب، حتى إن شركة "كرافت فيرك أونيون" الألمانية وقعت اتفاقية بناء مفاعل بوشهر النووي مع إيران في 1975، ثم وقعت بعد عامين على بناء أربعة مفاعلات إضافية بموافقة الحكومة الألمانية. 
ما الذي حصل بعدها؟ قامت الثورة الإسلامية في إيران في 1979، وأزيح الشاه حليف الغرب، ليأتي نظام ديني متشدد يستأثر بالحكم في إيران، يشهر عداءه لأميركا ولإسرائيل، ما حدا الغرب على إعادة النظر بعلاقاته مع إيران، وانقلاب الموقف من الطموح الإيراني النووي، فأوقفت الولايات المتحدة إمداداتها من اليورانيوم المخصّب إلى إيران، وعلقت الشركة الألمانية أعمال إنشاء المفاعل النووي بوشهر قبل الانتهاء من المشروع، فكان البديل على الساحة من أجل هذا الطموح الإيراني روسيا في عهد الرئيس بوريس يلتسين، إذ مدت إيران بالخبراء في هذا المجال، وتم توقيع الاتفاق بينهما في منتصف التسعينات لإكمال مفاعل بوشهر. وما حصل منذ مطلع الألفية الثالثة، وبعد أن بدأت المخاوف الدولية من برنامج إيران النووي، فالجميع يعرفه، لأن المنطقة برمتها تقف على فوهة بركان منذ ذلك الحين، ومنذ أن احتلت أميركا العراق ودمرته وتركت الباب مواربًا لدخول إيران وتدخلها. مرّ عشرون عامًا بعد قرار مجلس الأمن 1737، منع تزويد إيران بأي معدات أو تجهيزات أو تكنولوجيا يمكن أن تساعدها في برنامجها، ومسلسل التفتيش من مفتشي الطاقة، والتهديد والحصار الاقتصادي والتلويح بحرب في المنطقة، والمنطقة مشغولة بهذه اللعبة التي جرّت معظم أقطاب القوة في العالم إليها، وهم يتقاسمون المنطقة، ويشعلون الحروب فيها، ويستنزفون طاقاتها ومواردها من كل الأنواع، بينما يزداد تمدّد إيران في المنطقة، ولم يؤثّر الحصار الذي كان مفروضًا فيما مضى على برامجها العسكرية، وتطوير أسلحتها، ومدّ حلفائها في المنطقة بالسلاح اللازم لإدارة الحروب. 
ما يجري اليوم من تصعيد حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة إلى درجة الخوف من نشوب حربٍ في منطقة الشرق الأوسط سوف تكون كارثية فوق الكوارث التي تحيق بها أصلاً، يمكن اعتباره "كسر عظم"، إذ إن إبقاء الوضع متوترًا بنشوب الحرب في كل لحظة أمر مطلوب، فهو بالنسبة لأميركا نبع متدفق من الأموال والاستثمارات الحربية لن تعفّ عنه قبل أن ينضب، وقد قالها صراحة الرئيس ترامب في عدة مناسبات، قال موجها كلامه إلى السعودية وحلفائها من أن عليهم أن يدفعوا إذا كانوا يريدون الحفاظ على أمنهم، فوجود عدو فعال دائمًا في المنطقة من أهم ضروريات المصلحة الأميركية. 
وراحت التغريدات تتالى من الرئيس ترامب تجاه إيران، مرة يصعد لهجته وأخرى يوارب في "إبقاء الوضع متوترًا بنشوب الحرب في كل لحظة أمر مطلوب"خطابه، وقد أكد أخيرا أنه "سيكون أفضل أصدقائهم" في حال تخلى الإيرانيون عن برنامجهم النووي. وقال في حديقة البيت الأبيض "لن نسمح لإيران بحيازة سلاح نووي، وحين يقبلون بذلك، يكون لديهم بلد غني، وسيكونون سعداء جدا وسأكون أفضل أصدقائهم. آمل أن يحدث ذلك". 
ينشغل العالم بهذه الحرب الكلامية التي أصبحت مثل مناكفة المراهقين، بينما أكبر مشروع سيغير مستقبلاً وجه المنطقة يمشي في خريطة طريقه، صفقة القرن التي بدأت إرهاصاتها بورشة البحرين الاقتصادية أخيرا بادّعاء الرخاء الاقتصادي، مع الصمت عن الحرية والحقوق، الخطة التي تجمع من أجل الانطلاق بها أميركا وحليفتها إسرائيل أموالاً من العرب، لتصبح القضية الفلسطينية، وما تم الاتفاق عليه سابقًا من معاهدات، من الماضي، وتصبح المنطقة كلها تحت ظلال زيزفون أميركي وإسرائيلي، من دون أن ننسى الأطراف الأخرى الساعية إلى ضمان نصيبها، الدول الأوروبية، روسيا، تركيا. 
تعود أميركا إلى زيادة الضغوط الاقتصادية على إيران، وإذا لم تفلح الدرجة القصوى من الضغوط الاقتصادية في جر إيران إلى التفاوض، من أجل اتفاق جديد، فإن العمل العسكري غير مستبعد حسب الظروف. فهل يمكن تصديق احتمال كهذا؟ صحيح أن صراعا بين الولايات المتحدة وإيران محتمل الحدوث الآن أكثر من أي وقت مضى، منذ تولى ترامب رئاسة الولايات المتحدة، هذا إذا اعتبرنا سلوك هذا الرئيس الإشكالي وتغريداته الكروانية منطلقًا يمكن اعتماده في التحليل السياسي. ولكن شركاء الإدارة الأميركية في أوروبا يشعرون بعدم الارتياح إزاء ما ستؤول إليه الأمور، فقد اتخذت إسبانيا وألمانيا وهولندا خطوات من شأنها وقف أي أنشطة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط مشاركةً مع الأميركيين، نظرا إلى تصاعد التوترات في المنطقة. هناك الحلفاء الإقليميون ممن لديهم مخططاتهم الخاصة التي يسعون إلى تنفيذها، وانقسام لدى صناع القرار في الولايات المتحدة بشأن دعم هؤلاء الحلفاء وتزويدهم بالأسلحة في حرب يباد بسببها الشعب اليمني، إلى جانب تصاعد التوترات مع شركاء قدامى في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفوق ذلك كله عدم القدرة على حسم القرار، وتحديد الأولويات فيما يتعلق بمصالح واشنطن الاستراتيجية الحقيقية. 
كل هذا الحراك السياسي والتصريحات والتصعيد ضروري بالنسبة لأميركا التي ليس من مصلحتها شن حربٍ طالما إيران على موقفها الحالي وسياستها وتوجهاتها وتدخلاتها الإقليمية فزاعة المنطقة، فهي تجمع الأتاوات، ودول النفط تنفق أموالها، فوجود عدو لها اسمه إيران يشكل بالنسبة لأميركا بئرًا غزيرة تتدفق في خزينتها ليترفّه شعبها ويُقتل الأطفال في سورية واليمن والعراق وفلسطين. التلويح بالحرب يجدي أكثر منها.

العربي الجديد

جمعة, 28/06/2019 - 13:15