طيور الحدائق:

الشيخ أحمد البان

تعشق الطيور الحرية، وهي رمزها منذ الأزل، ولذلك اختارت رحابة الفضاء على ضيق الأرض، فالطير يستطيل الليل لأنه يحبس أجنحته عن الرفرفة، ولذلك يحلق مع خيوط الصبح الأولى، ويضرب به المثل في البكور الأول:
"وقد أغتدي والطير في وكناتها" كما قال الملك الضليل.
وما ذلك البكور إلا لأنها تضيق ذرعا بالقيد والهدوء وكآبة المكث في مكان واحد.
ذلك السلوك الفطري لطيور الطبيعة الأصلية، ولكن لطيور الحدائق الصناعية سلوك آخر، وكأن فطرتها انتكست، فأنت ترى عصافيرها هادئة رزينة، فقدت أجمل ما فيها وهو الزقزقة والقفز من غصن إلى غصن، وكأن تلك العصافير المسكينة تعلمت من البط سلوكه لطول مكثها القسري معه، فصارت قميئة لا تثير فيك شجنا ولا تحرك لاعجا.
أما الحمام في الحدائق فقد نسي هديله العذب، وكأنه يئس من العودة إلى حياة الوادي ففقد مشاعره، فلا هو حزين ليأسه من العودة، ولا هو فرح بقرب الفكاك من أسره، مسكين ذلك الحمام، يذكرني بحال المغترب الذي طال مكثه في الغربة، وحكمت عليه ظروف الحياة والمرض ودراسة الأبناء بالعيش خارج مرابع صباه ومغاني أنسه، فصار قطعة من اللحم والدم، وإن شئت قل قطعة من البلاستيك، لا يحزن ولا يفرح، لم يعد يرى في الحياة ما يستحق الشجن.
لك الله يا طيور الحدائق الصناعية، ولك الله أيها المغترب في هذه المدنية المصطنعة.
هل ما زلت أيتها الحمامة تذكرين أيامك تهدلين على فرع بشامة نبتت في سفح جبل تحفه الغدران، فيجييك ساق حر من على شجرة يتوع كأن جذعها الضخم نبت منذ هبوط آدم إلى الأرض، وهل تذكر أيها العصفور الهادئ أيام كنت شعلة نشاط تقفز مع أقرانك من غصن إلى غثن وتملؤون الوادي زقزقة وصفيرا عذبا يثير أشجان الصبايا العذارى وهن يتسللن الوادي خلسة ليقطفن علكة أو نبقة أو عود بشام يودعن به الراحلين من الأحبة في فجاج البحث عن مرعى أخصب:
أتذكر إذ تودعنا سليمى**بعود بشامة سقي البشام
لك الله أيها المغترب الذي قتل اليأس وأقراص الدواء ورسوم دراسة الأبناء وطول الأمد مشاعره وأحاسيسه فتحول إلى بلاستيك بشري.
هل تذكر أيها المغترب خطوتك الأولى نحو الغربة، هل نسيت فرحك بأول رجل تضعها على الأرض التي تود لو خرجت منها اليوم، أما زلت تذكر أشواقك الهائجة بعد عام، وفرحتك الغامرة عند أول عطلة تقضيها في وطنك بعد قطيعة عام، هل تتذكر ترنمك ببيت نزار وأنت في طابور الجوازات عند أول عودة:
أنا هنا بعد عام من قطيعتنا**ألا تمدين لي بعد الرجوع يدا
لم يمد الوطن يده، كان كئيبا رغم بهجتك الغامرة، وحزينا في وجه فرحك الطاغي، وكان يقول لك بشفتين من جفاء: لم تعود إلي؟
أيتها الطيور الأسيرة، أيها المغترب الأسير، سلام من أسير آخر مات البلبل بين جوانحه ومات الإنسان في عينيه.

جمعة, 14/01/2022 - 13:14