هل الأوغاد بحاجة إلى الحب؟

بروين حبيب

لا تفهم أبداً من أين يدخل الشرُّ إلى حياتك، تجتهد منذ نعومة أظفارك على الحفاظ على براءتك وطيبتك، لا لأن ذلك خيارا لك منذ البداية، بل لأن ذلك يرضي والديك ومحيطك، وأنت مجتهد ومحبوب، وتحصل على مكافأتك كلما أحسنت التّصرُّف. ثم تعتقد وقد غرسا فيك فضائل كثيرة، أن الخير ينتصر على الشر لا محالة، ولا بدّ من التّمسُّك به إلى آخر رمق.
في واقع الأمر أنت لا تكبر حتى إن تضخّم جسدك وازداد حجما، أنت ذلك الطفل الذي تمكّنت منه البراءة والطيبة، واحتلّت كل تفاصيل نفسه، ومهما حاولت التّملُّص من شباك الطيبة التي علقت فيها، تقع فريسة شباك جديدة.
ثمة شيء فيك يجذب الأشرار إليك، وهو نفسه ما رُبِّيت عليه بقسوة أحيانا لتكونه إلى الأبد. وها أنت أمام كل ضربة تتلقاها من أحد الأشرار، الذين يدخلون حياتك تقف حائرا أمام سخرية القدر منك، تراه يكافئك؟ أم يلقنك دروسا لتتحرر من تلك الطيبة المبالغ فيها؟ وأين مكافأته إن كان خروجك سالما من كل فخٍّ شرير متوّج بوجع يضاف إلى كل أوجاعك التي تشكّلت بسبب أحداث مشابهة؟ تبحث في الكتب عن سبب وجود الشرّ، فلا تفهم شيئا، لا يتفق الفلاسفة ولا العلماء على قاعدة واحدة، البعض يقول إن الإنسان يولد خيّرا، ويتعلّم الشر حسب ظروفه، والبعض يقول العكس، في ما يذهب قسم إلى أنّ الإنسان حاضنة عجيبة لصراع دائم بين الخير والشر، ومتى انتصر أحدهما على الآخر توضّحت شخصيته بشكل واضح. يحتاج المرء لفترة يختبر فيها ذلك الصراع، يقاتل ويترقّب، وهو لا يعرف مصيره، حتى يخوض حربه الأخيرة، التي تحدّد في أي جهة يقف.
منذ الأزل، تقول الكتب السماوية، أن الشرّ لا نهائي في النفس البشرية، «ما يخرج من الرجل يجعله نجسا» الأفكار الشريرة هي نفسها، الزنا، الفجور الجنسي، القتل، السرقة، التعطش للتملُّك، الاحتيال، نظرة الحسد، الغرور، الظلم، كلها قذارات تملأ قلوب الرّجال، كما تنقلها هذه الكتب. لكنها لا تعطي تفسيرا يشفي الغليل عن مبررات وجود الشر في العالم. البحث في هوية الشر ومنبعه، تقودنا لمنعطفات لا تخطر على البال، ولعلّ أجمل ما قرأناه عن «حكمة وجود الشرّ في حياتنا» شرحه الكاتب اللبناني الراحل جبران خليل جبران في قصته عن الشيطان ورجل الدين، حتى أن هذه القصة تكاد تؤكّد لنا أن الطيبين هم الذين أوجدوا الشرّ من أجل بقائهم، فإذ بالحياة كلها تبدو قائمة على محور الشرّ لا الخير.
في قصّة عابرة غير التي رواها جبران، يروى عن ثري عربي خرج إلى الشارع لمراجعة نفسه، بعد أن خسر صفقات كبيرة لم يفهم لها سببا، كان حزينا وناقما، وقد فكّر في أنّ تجارته لحقتها لعنة إلهية، لأنه لم يكن نزيها بما فيه الكفاية. وهو غارق في أفكاره اصطدم بشاب على قارعة الطريق، من أولئك المشردين، الذين قذفت بهم الظروف إلى الشارع دون مأوى ودون عمل. رقّ قلب الرّجل فدعا الشاب إلى بيته، أطعمه وسقاه ونظّفه، ومنحه سقفا يحميه وعملا. وعاهد نفسه على أن ينقذه مما هو فيه ـ حسنا هذه ليست النسخة العربية لقصّة «البؤساء» لفيكتور هوغو، إنها قصة من ملايين القصص التي حدثت، ولا تزال تحدث في مجتمعات الخالق ـ تحسّن وضع الشاب إذن، لكنّه تصرّف كما تصرّف جرو الذئب الذي أنقذه الرّاعي فأكل شاته، ففي ليلة ليلاء تسلل إلى البيت سرق ما سرق، وعند محاولة هروبه اعترض الرجل طريقه فطعنه. لماذا رفض الشاب كل ما حصل عليه من استقرار وأمان وخان من أحسن إليه؟ لماذا قابل هذا العطف بسلوك عدواني؟ وهل كان هذا الشرّ سيخرج من معاقله في نفسه العميقة لو أنّه ظلّ مشرّدا في الشوارع؟ يمكن الغوص في النّفس البشرية من خلال الاطلاع على الكثير من النتائج التي توصل إليها علم النفس، كما يمكن استنطاق الأدب، الذي سجّل التجارب الإنسانية منذ ظهوره إلى اليوم، وتفنن في تقديمها للقارئ بكل نماذجه الممكنة. كل شيء بين أغلفة الكتب مرجعه الحياة. حتى ما كُتب ضمن أدب الخيال العلمي، ثمة رابط مشترك بين كل ما قيل وكتب من معطى أنه قصص إنساني.

يطلق البعض نداءات بأن الأوغاد بحاجة إلى الحب، لكن الحياة تعطينا دروسا قاسية تكشف مدى ارتياح الأوغاد، وهم محاطون بهالة من الشرّ، كدرع يحميهم من تلقي ضربات جديدة.

عن الشرّ والخير، أتذكّر مقولة غريبة لأحدهم تقول، إن غياب المرأة والطعام الجيد عن حياة الرجل تجعل قلبه مزرعة للشرور! كان ذلك في مقال طويل عن شخصية نابليون وقسوته التي حوّلته إلى كائن لا تعرف الرحمة قلبه. هراء طبعا، يذكر التاريخ والتراث القصصي الشعبي الكثير عن شخصيات شريرة نعمت بحياة القصور والنساء الجميلات والمأكل الفاخر. كما يحفل هذا التراث بقصص الساحرات الشريرات، في ربط مثير للأسئلة بين الإناث الساحرات والشر. لقد تقاطع الشر مع الخير دائما، وهذا ما حاك حيوات بأكملها. ولعلّ من بين أبرز القصص التي تأثرت بها فعلا لفهم هذه الثنائية، قصة فيلم «دعوة الوحش» التي تروي حكاية طفل يرى كوابيس ليلية بطلها وحش على شكل شجرة. فكرة الفيلم قائمة على قصة لباتريك نس، المستندة بدورها إلى فكرة أصلية كتبتها الكاتبة الإنكليزية سيوبان دود.. تنتهي قصة الفيلم بعد أن يكشف الوحش للصبي كونور أن لا خير، ولا شرّ بشكل مطلق. الفيلم الذي أشاد به النقاد كمحتوى وإخراج، وتأثيرات مرئية، حقق أداء ضعيفا في شباك التّذاكر، على عادة الأفلام التي تخاطب العقل. ترفض الجماهير فكرة أن يختبئ الشر في عباءة الخيرن تفضل في الغالب انتصار الخير على الشر، لكنها تننجذب إلى الشخصيات الشريرة؟
لعقود من الزمان أثار الأوغاد فضولنا، بل إن بعض أبطالنا المفضلين يشقون طريقهم لتحقيق العدالة، وحماية الأخيار، باستعمال أسلحة فتّاكة، يطلقون الرّصاص ويقتلون بعض العابرين بالخطأ، يستعملون أبشع ما لديهم للقضاء على الأشرار، إنهم «أشرار طيبون». يصدمنا علم النّفس حين يكشف هؤلاء المقنعين بأقنعة الشر، الميالين إلى الأدوار الشريرة، يحدّد أنهم يعيشون «ضائقة نفسية» ويطلبون المساعدة بلفت انتباه الآخرين إلى بؤسهم وإيذاء أنفسهم. الشر الذي لا مبرر له غالبا ما يكون نتيجة لشر أعمق بكثير. قال جان جاك روسو «كل شر يأتي من الضعف، الطفل الشرير ضعيف، إجعله قويا وسيكون جيدا». سعى علم الاجتماع لإعطاء تفسير لهذه الظاهرة أيضا، وأرجعها لسلوك الجماعة تجاه الفرد، فكلما وفرت الحماية له واحتضنته بشكل جيد، قلّت عدائيته، والعكس صحيح. يتمثّل الشر كما الخير بين الميول البشرية ويتواجد في كل واحد منّا بدرجات متفاوتة، وتلعب الجماعة أو البيئة الحاضنة لنا دورا مهما لقمع أحدها وإبراز الآخر. بالمختصر الأوغاد أبناء بيئتهم.
يطلق البعض نداءات بأن الأوغاد بحاجة إلى الحب، لكن الحياة تعطينا دروسا قاسية تكشف مدى ارتياح الأوغاد، وهم محاطون بهالة من الشرّ، كدرع يحميهم من تلقي ضربات جديدة. في أدب شكسبير نقف طويلا عند شخصياته الشريرة، التي تتحكم في مسار الأحداث، وهي نماذج ممتازة لاستخلاص الدروس المفيدة في الحياة. شكسبير لديه موهبة إعطاء لسان حاد للطغاة والخونة والخصوم. وقد جعلنا نراهم ونسمعهم بشكل جيد لا لبس فيه. ومرّر رسائله الخطيرة إلى الحالمين الغارقين في الطيبة، الذين قد يحضنون الأوغاد في لحظة حالمة، فيفقدون فيها عذرية مشاعرهم إلى الأبد. هكذا يولد الشرّ، وبهذه الطريقة يستمر. مع احتمال نادر بإمكانية موته في تلك اللحظة الفارقة.

القدس العربي

اثنين, 14/06/2021 - 10:41