نصر يعادل هزيمة

جواد بولس

سوف تعلن لجنة الانتخابات المركزية الإسرائيلية نتائجها النهائية بعد إتمامها لعملية فحص جميع مغلفات الاقتراع، وتدقيقها حسب الأنظمة والقوانين المتبعة؛ لكنني لن أنتظر كي أكتب عن سقوط آخر السدود، فبعض الخلاصات، بناءً على المعطيات المعروفة، حسب ما نشر لغاية منتصف ليلة الاربعاء الفائتة، أصبحت ناجزة، كما أراها.
أولًا: معظم الأحزاب اليهودية المنتخبة تنتمي إلى الفصائل نفسها المعادية لوجود وحقوق المواطنين العرب في الدولة؛ وقد نستثني بحذر حزب «يش -عتيد» وبعده حزب «العمل» وطبعا بفوارق كبيرة، وببعد عنهما حزب «ميرتس».
ثانيًا: سوف يحتاج كل مرشح لتشكيل الحكومة إلى دعم أحزاب اليمين، القومي منها أو القومي المتدين، التي رغم التفاوت في درجات تطرفها وعنصريتها وخطورتها، فإنها تتفق حول قواسم مشتركة أساسية، مثل مسألة الحكم ومرجعياته الدستورية، ومصير الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكيف يجب التعامل مع سكانها الفلسطينيين، وما هي مكانتنا، نحن مواطنين الدولة العرب، في الدولة القومية اليهودية، التي يُجمعون على ضرورة المحافظة عليها ككيان قوي لليهود، وقادر على مواجهة جميع أعدائه، سواء جاؤوه من الخارج، أو من داخله، ويصرون أيضاً، على ضرورة القضاء عليهم جميعاً لأن «من جاء كي يقتلك قم باكراً واقتله» كما ورد في موروثهم الفقهي والتاريخي الحافل.
أما إذا نجح بنيامين نتنياهو في تجنيد معسكر داعم له، وبنيل ثقة رئيس الدولة كمرشح لتشكيل الحكومة، فسيخضع، كما أقدر، إلى عمليات ابتزاز سياسية شرسة، من قبل جميع رؤساء الأحزاب اليمينية والمتدينة الحليفة، التي سيعرف قادتها، هذه المرة، كيف سيُحكمون أصفادهم حول رقبته، ويجبرونه على قبول شروطهم وفق ضمانات لن تدعه يفلت، كما فعل مع غانتس في المرة السابقة، أو مع غيره في تاريخه المليء بالنكث بالوعود، وبعدم الوفاء بتعهداته. ومن الطبيعي، في هذه الحالة، أن نكون نحن، المواطنين العرب وأخواننا الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أول ضحايا هذا الإئتلاف وأكثر المتضررين منه.
ثالثًا: نجحت عدة شخصيات وفرق يهودية سياسية متطرفة في دخول الكنيست الإسرائيلي، رغم أنها كانت، خلال عقود طويلة، فاقدة للشرعية القانونية، وغير مقبولة من الناحية القيمية، كلاعب في العملية السياسية الرسمية، ولا تحظى، بسبب رعونة مواقفها الفاشية المعلنة، بدعم شعبي ملموس. واللافت، في هذه التجربة الخطيرة، أن نجاح تلك المجموعات، تم بدعم مباشر من جهات وشخصيات أكاديمية ودينية عديدة، وفي طليعتهم برز نتنياهو وحزب الليكود، حتى تحولت هذه القوى، بعد اليوم، من مجرد «أشواك ضارة ومهملة» إلى قوة علنية شرعية ومؤثرة وشريكة طبيعية في قيادة جميع مؤسسات الدولة، كما سنرى في المستقبل القريب.

الإصلاحات السياسية لن تحدث من داخل أطر حزبية متهالكة، ومسيطر عليها من قبل قيادات ترفض الإقرار بهزيمتها وبفشلها

رابعاً: قد لا ينجح أي مرشح منتخب في تشكيل حكومة تحظى بأغلبية، أو بأغلبية مستقرة من باقي الأحزاب المنتخبة، وعندها ستضطر إسرائيل إلى خوض معركة خامسة، ستكون نتائجها علينا كمواطنين عرب أوخم وأخطر؛ فحالة التوازن/الجمود الحزبي التي تعيشها إسرائيل، بعد أربع جولات انتخابية، أدت عمليا إلى خلق أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية غير مسبوقة في تاريخ الدولة، ودفعت بالكثيرين إلى حالة من التعب، أو اليأس وفقدان الثقة والرغبة بالمشاركة بالعبث الحاصل؛ أو على النقيض، إلى اللجوء «للحلول الحاسمة»: فالمصوتون اليهود بدأوا يقامرون على نجاعة الأحزاب الخلاصية المتطرفة، التي قد يكون عندها «الحل النهائي» لجميع مآزقهم؛ بينما قرر نصف المصوتين العرب مقاطعة الانتخابات، فلا غرو أن بقي غدهم ريشة على «ظهر الغيب» ونصف نصفهم شاركوا وانتخبوا من وعَدهم بالبقاء في «جلابيب أبائهم» ورعايا محافظين في بلاط السلطان ومحظيين على موائده.
خامساً: شهدنا تطورا واضحا في مواقف الحركة الإسلامية الجنوبية، التي جاهرت بتبنيها سلوكاً سياسيا تفريطيا، كما سماه بعض المعقبين، يعتمد على معادلة تبادل المصالح النفعية مع الدولة، ومن دون إخضاع هذه العلاقة لأي محاذير، أو شروط سياسية مسبقة، في تحدٍّ لجميع مسلّمات ومفاهيم النضال والمواجهات السياسية العربية السابقة. لقد أطلق الدكتور منصور عباس شعار الحركة، الملتبس والمغالط،: «نحن لسنا في جيب أحد» حتى أمسى كلامه بمثابة جواز «السفر الدبلوماسي» الأخضر الذي أخرجها من بوابة القائمة المشتركة، والقادر على إدخال الحركة الإسلامية في حكومة يرأسها نتنياهو، أو في أي حكومة صهيونية يمينية. قد ترفض الأحزاب اليمينية المتطرفة الدخول في أي صيغة تحالف مع الحركة الإسلامية، ولكن المهم والجديد في هذا المشهد سيبقى متعلقًا بمواقف هذه الحركة، وما قد تحدثه من خلل في موازين العلاقات بين المواطنين العرب، ومؤسسات الدولة، وتصديعها لمعادلة المواطنة والهوية، خاصة إذا عرفنا أننا نختلف معها حول تعريف هويتنا ومركباتها والحقوق التي نقاتل من أجلها.
سادسا: حصدت الأحزاب والحركات السياسية العربية في هذه الانتخابات ما زرعته، أو لم تزرعه، خلال السنوات الماضية؛ ودفعت ثمن صمتها، حين كان يتوجب عليها الصراخ والمواجهة، وتواطئها أحيانا على حساب مصالح ناخبيها، وتملقها، باسم وحدة زائفة «حلفاء» كانوا يستغلون تلك «الوحدة» من أجل مشاريعهم وأهداف حركاتهم الخاصة.
سابعاً: قد تُسجَّل هذه الجولة الانتخابية كعلامة فارقة في حياة أكبر تيارين سياسيين تاريخيين عرفتهما الساحة السياسية المحلية عندنا: الشيوعي من خلال الحزب، وبعده الجبهة الديمقراطية للسلام والمساوة، والتيار القومي، كما عبّرت عنه في البدايات مجموعة حركات صغيرة، أفضت في ما بعد إلى ولادة حزب التجمع الوطني. وقد تتحوّل نتائج هذه المعركة بعد سبعين عاماً من تسيّد هذين التيارين إلى شهادات على وصولهما إلى حالة من الهرم العاجز، والتكلس الفكري والتنظيمي، وأفول قمريهما بشكل نهائي؛ بعد أن كان لدوريهما جليل الأثر على معجزة بقائنا، بعد النكبة، في الوطن، ومن ثم التأثير في هندسة معالم هويتنا الفلسطينية الوطنية كمواطنين في إسرائيل.
لسنا في معرض تحليل مسببات ما جرى للحزبين المذكورين في هذا المقال؛ لكننا نستطيع ببساطة أن نتابع مسيرة التقهقر الجبهوية، ونرى كيف لم يعُد الحزب الشيوعي عنوانًا للفقراء وللكادحين، ولا ملجأ للأمميين، ولا منصة لأصحاب الحناجر «الزيّادية» الجريئين؛ ونشهد، كذلك، كيف اختفت جبهة كانت ذات يوم ديمقراطية وبيتاً للناس المنتمين لمصالح شعبهم وملاذا للحلفاء من لجان ونقابات وجمعيات وتجمعات للحرفيين والأكاديميين والشباب والنساء، فتحولت إلى «ضفيرة صغيرة» منسية أو «دكانة» مستضعفة على رصيف أصحاب حزب، صنع أباؤه أمجاد شعب أمين. أما مسيرة حزب التجمع نحو النهاية، فكانت أسرع وأوضح، وهي بدأت عمليا مع إشكالية تموضعه كحزب قومي داخل الدولة الصهيونية، وتعقيدات طروحاته، النظرية وممارساته التطبيقية، في مسألتي المواطنة والهوية؛ ومرورا بأزمة قياداته، خاصة بعد انتقال زعيمه المؤسس للعيش في دولة قطر، وتحكمه في منشآت ومؤسسات وقيادات الحزب، التي مازال بعضها مرتبطا به، أو حتى يقيم مثله فيها.
ثامناً: على الرغم من تأبين الكثيرين لحزبي العمل وميرتس قبل الانتخابات، فقد نجحت قيادات الحزبين الجديدة باجتياز عتبة الحسم. هنالك اختلاف بين مفاهيم الحزبين التقليدية، لاسيما في ما يتعلق بمسألة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومسألة حقوقنا القومية والمدنية كمواطنين في الدولة، ولسوف نتطرق لاهمية وجودها في المستقبل.
تاسعا: لن تجعل قيادات الأحزاب اليمينية والدينية الصهيونية، حياة الحركة الإسلامية سهلة، رغم ما أشاعه رئيسها عباس من رسائل مطمئنة ومواقف غزل مع نتنياهو وغيره؛ ولئن شعر قادة الحركة لوهلة أن سموطريتش وأمثاله أقرب إليهم من هوروفيتس، رئيس حزب ميرتس، والنائبة عايدة توما ورفاقها، سيكتشفون، في أول مواجهة عقائدية قريبة، أن كونك «محافظًا» إسلاميا لا يكفي كي تصبح حليفَ محافظٍ صهيوني عنصري ومتدين، رآك ويراك كعربي وكفلسطيني وكمسلم شيطانا وعدوا ومخربا ؛ فقد يعادل نصرهم، في حسابات التاريخ، هزيمة.
عاشرا: أثبتت تجارب من مروا بمثل حالاتنا، أن الإصلاحات السياسية لن تحدث من داخل أطر حزبية متهالكة، ومسيطر عليها من قبل قيادات ترفض الإقرار بهزيمتها وبفشلها، وعليه، وفي سبيل مواجهة الخطر المتجسد أمامنا، يتوجب علينا إيجاد المخارج والحلول فهل ستعادل الهزيمة نصرًا؟
كاتب فلسطيني

القد س العربي

جمعة, 26/03/2021 - 16:01