"كورونا" والمالية العامة لموريتانيا ... الواقع والتحديات

 عبد الرّحمن بدّي مأْمون

لطالما سببت الأزمات، اقتصادية كانت أو صحية، اختلالات في المالية العامة المكوّنة من الإيرادات، النفقات والموازنة العامة. ويصعب جدا ضبط الموازنة ذلك لأنها وثيقة تقديرية لا يتم تجسيد أرقامها إلاّ بتنفيذ بنود الإنفاق والتحصيل فيها مما أضطر المختصين لإنشاء موازنة التّسوية التي من خلالها يمكننا أن نقرّ عجزا أو فائضا في الموازنة.
ففي معظم الدول، بعد إضفاء الصفة التشريعية على مشروع قانون المالية، تشرع الحكومات في تنفيذ الموازنة حتى تصل لمرحلة تعديلها ومن ثم نقاش قانون المالية المعدّل في البرلمان. ونحن اليوم في صدد هذه المرحلة التي تقوم فيها اللجان المختصة في البرلمان بدراسة التعديلات التي قد صادق عليها مجلس الوزراء في وقت سابق برئاسة فخامة رئيس الجمهورية السيّد محمد ولد الشيخ الغزواني في انتظار التصويت عليه في إحدى جلسات الجمعية الوطنية اللاحقة والتي ستتزامن مع فترة صعبة قد اشتد فيها انتشار الفيروس التاجي المستجد COVID-19 مما حتّم على الدولة زيادة درجة التدخل لتحقيق التوازن في القطاعات كاملةً من خلال زيادة نفقاتها، الزيادة التي لم تكن متوقعة حتى على مستوى قانون المالية المعدّل.
نرمي، من خلال هذا المقال الموجز، إلى توضيح أوجه تزايد النفقات العامة بسبب هذا الوباء، الإعفاءات الجباية التي قد تم إقرارها وهي وجه من أوجه النفقات وأخيرا أساليب تمويل هذه النفقات في ظل تقليص الجباية.

- تزايد النفقات مع تزايد الحالات أمر لا مفر منه :
فمن الطبيعي إن تزايدت الحالات -لا قدّر الله- ستتزايد النفقات العامة ويكون ذلك على عدة أوجه :
أ- حجر المصابين : وهو ما قد يكلف متابعة حالتهم الصحية من جهة، إن كانوا حاملين للفيروس ولكن لا تظهر عليهم أعراض. ومن جهة أخرى، إن كانت تظهر عليهم أعراض المرض، فسوف تتغير طريقة التدخل الطبي وذلك لأن العناية بالمريض، إذا ارتفعت حدة الأعراض وقساوتها، تستدعي غرفة إنعاش مع طاقم كامل ومعدّات كاملة. وهو ما قد يكلف مبلغا مهما في اليوم الواحد.
ب- عملية البحث عن المخالطين : وهم مواطنون عاديون حتما وقد يتّصفون بشيء من قلة المسؤولية فيُعرضوا عن التبليغ بشأن مخالطتهم للمريض. وهو ما حصل فعلا مع الحالات التي أُكِدت إصابتها بفروس كورونا وثبت أن المصابين التقوا بأشخاص منهم أفراد أسرهم ومنهم أفراد من المجتمع، لاسيما أن هنالك حالات إصابة لا تظهر على أصحابها الأعراض. كما تتصف إجراءات البحث عن المخالطين وحجزهم، إن اتخذت عند كل إصابة، بتكلفتها العالية نظرا لرأس المال البشري والتقني الذي سيكرس لها.
ج- الإجراءات الوقائية على مستوى وزارة الداخلية :
ممّا لا شك فيه هو عظم الدور المبذول من وزارة الداخلية وجسامة تكلفته. يمكننا حصر دورها، في هذه الفترة، علاوة على دورها السابق الذي يشمل حفظ الأمن بشكل عام، في المهام التالية :
● دوريات الرقابة ما بعد ساعة حظر التجوال.
● تأمين مراكز الحجر (للحالات المؤكدة والمشتبه بها).
● الرقابة على الأسواق والأماكن المكتظة للتأكد من إتّباع المواطنين للإجراءات الوقاية إلخ.
●عناصر الرقابة المتواجدة على الحدود.
● تركيز الرقابة على الطرق الوطنية السّيارة الرّابطة بين الولايات الداخلية وولايات نواكشوط الثلاث من أجل حسر العدوى ومنع انتشارها.
يتحتم في هذا الصدد وجود تكاليف من أهمها الوقود، الاستهلاك المصاحب لتحريك الوحدات المعنية، علاوات إلخ.

-إجراءات الدّعم و الإعفاءات الضريبية المقررة وأثرها على المواطنين، الدولة و الاقتصاد :
لقد تزامنت هذه الجائحة مع اضطراب في الاقتصاد الوطني كسائر الدول. ولقد كان ركود الاقتصاد أشد وطئه في البلدان الأكثر تقدما ذلك لتوسّع القطاع الخاص فيها ولكون المشاريع الصغيرة والمتوسطة مكوِّنة كبرى داخل منظومة العرض في أسواقها.
فبحسب النظرية الاقتصادية الحديثة، ترتبط الاضطرابات في سوق معينة باختلالات أخرى في أسواق أخرى تتصف بنفس الأهمية. السوق المحوري هنا هو سوق السلع والخدمات وبه يرتبط سوق العمل وسوق المال.
مع بداية اكتشاف حالات مؤكدة حاملة للفيروس، بدأت الحكومة في البحث عن وسائل للحد من انتشاره، وكسائر الدول، اتجهت اللجنة الوزارية المنتدبة لدى الحكومة والمكلفة بالملف إلى إغلاق الأماكن الحيوية والتي تعرف اكتظاظا ويسهل انتقال الفيروس فيها. ولعل من أهم هذه الأماكن هي الأسواق. فهنا يقل العرض من جهة، ومن جهة أخرى، ينقص الطلب بدوره وذلك لخوف الناس من انتقال العدوى إليهم، ومن هنا يتولّد الركود. ولعل من أهم تداعيات ركود الاقتصاد ظهور البطالة وتناقص طلب النقود.
بعد هذه الإجراءات، خسر تجّار السوق المركزي مبالغاً محتملةً مهمة، وتأثر الباعة البسطاء لعدم السماح لهم بممارسة نشاطهم. وهو ما يمكن فهمه تماماً.
ونظرا للرغبة الملحّة للتّزود من المواد الغذائية الأساسية، مع عرض ثابت نسبيا، كانت زيادة في الأسعار تلوّح في الأفق وهي التي لا تتمناها الحكومة ويهابها المواطن، فما كان من الحكومة إلى اتخاذ التدابير الآتية للتخفيف من وطئه تقلبات السوق من جهة وآثار الإجراءات الاحترازية من جهة أخرى خصّيصا بالنسبة لذوي الدخل المحدود والفقراء بشكل عام :
- اقتناء كافة حاجيات البلد من الأدوية والمعدات والتجهيزات الطبية المرتبطة بالوباء حذرا من نقص محتمل للمعدات الطبية والدوائية التي يمكن أن يحتاجها المرضى سوءا في الحالات العادية أو في الحالات الاستثنائية والمرتبطة بالوباء.
- تخصيص 5 مليارات أوقية قديمة لدعم 30 ألف أسرة من الأسر المعالة من طرف النساء والعجزة وذوي الإعاقة بإعانة مالية شهرية طيلة ثلاثة أشهر. وحتى إن لم يدخل هذا البند حيز التنفيذ بعد، فإن له تأثيرا كبيرا على القدرة الشرائية لهذه الفئة والتي تتميز بارتفاع الميل الحدي للاستهلاك لديها، فمن هنا نتأكد أن هذه المعونة، ستتحول قريبا إلى طلب فعال في السّوق، وسيتعزز بقاء الاستثمارات التّجارية حتما وستعينهم (الأسر المعازة) على قضاء حوائجهم.

 -تحمل الدولة لكافة الضرائب والرسوم الجمركية على المواد الأساسية. وهي المواد التي شهد السوق إقبالا عليها لم يسبق له مثيل وهو ما سببه ذعر المواطنين من جهة، وعدم ثقتهم في قدرة العرض في السوق من جهة أخرى. فهنا محلّ تدخل الدولة وهي التي تسدّ ثغرات القطاع الخاص وتدعمه بسلطتها عبر السياسة الاقتصادية. وكما أشرنا من قبل، ترمي هذه الخطوة إلى معالجة اضطراب أسعار هذه المواد وتخفيضها إن أمكن الأمر.
ـ تحمّل الدولة لفواتير الماء والكهرباء عن الأسر الفقيرة لمدة شهرين. وهو ما حصل فعلا ويُتوقع أن توجه تلك الأُسر المبالغ التي كانت تدفع سابقا مقابل خدمة الماء والكهرباء إلى استهلاكها في سوق السلع والخدمات.
ـ تحمل الدولة عن أصحاب المهن والأنشطة الصغيرة ولمدة شهرين، كافة الضرائب البلدية وذلك لتخفيف وطئة نقص الطلب على منتجاتهم.
ـ تحمل الدولة عن أرباب الأسر العاملين في قطاع الصيد التقليدي، كافة الضرائب والإتاوات المترتبة على هذا النشاط طيلة بقية السنة.
من شأن الإجراءين الأخيرين أن تساعد المعنيين بها على مواصلة نشاطهم مما سيضمن نوعا ما استمرارية مداخيلهم ما لم يتأثر الطلب على السلع التي يعرضونها.
وللحكم على هذه السياسة، من منطلق اقتصادي بحت، يمكننا أن نلاحظ أن هذه السياسة حملت في طيّاتها نوعين من السياسات الاقتصادية.
● تحمل الدولة لتكاليف الماء والكهرباء وتقسيم المعونات يعتبر سياسة مالية لها أثرها المباشر على المواطنين. فبحسب نموذج    MUNDEL-FLEMING الاقتصادي تُعتبر السياسة المالية ناجعة إن موّلت بعيدا عن الاقتراض من القطاع الخاص وهو ما كان دوما بالنسبة لموريتانيا. فترتفع الدخول ويرتفع سعر الفائدة. ولتجنب ارتفاع سعر الفائدة، الذي قد يسبب "أثر الإزاحة" للاستثمار الخاص، قام البنك المركزي باتخاذ رزمة من الإجراءات التي من شأنها أن تبقي سعر الفائدة في مستواه السابق. أهمّها:
- خفض المعدل التوجيهي من 6,5% إلى 5%
- خفض النسبة المطبقة على التسهيلات الائتمانية من 9% إلى 6,5%
- خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي من 7% إلى 5%
من هنا تكون السياسة المالية قد حققت أهدافها كاملة ويمكننا وصفها بالنّاجعة.
● تحمّل الدولة للضرائب يعني، بلغة أخرى، الاستغناء عن قيمتها. ويمكننا أن نقول إن تحمّل الدولة للضرائب يعني الإعفاء الضريبي. وهو ما قد تم تحليله في نفس النموذج السابق تحت لواء السياسة الضريبية التي تعتبر أقل وأبطء تأثيرا من السياسة المالية.
فالسياسة الضريبية، عند الاستعانة بها، تعمّ الاستفادة منها ولكن بعد عدة مراحل. فانخفاض الأسعار بعدها قد لا يكون فوريا وذلك بسبب الطبيعة الدّورية للجباية. وإن خُفّضت الأسعار نسبيا قد يستغرق المستهلك وقتا لكي يتوجه للسلع. وأخيرا عند التوصل بالمنتج تحلّ الفائدة من تطبيق هذه السياسة: سعر أقل بالنسبة للمستهلك، بيْع أكثر بالنسبة للمنتج وتحسن للنشاط الاقتصادي بشكل عام.
وعلى كل حال، طبقت الدولة كلتا السياستين، مّما سيحقق الأهداف الاقتصادية المرتبطة بالفترة الحالية. وسيسبب نقصا حتميا في الإيرادات الضريبية وزيادة في الإنفاق العام.
لكل ما ذكرنا أثر على المواطنين والدولة، فيسهل تحليل أثره على الدولة وهو ذلك التأثير المقتصر على ارتفاع سريع في النفقات. أمّا بالنسبة للمواطن، الذي عانى في بداية الوباء، ومازال يعاني ربما، يفترض من هذه الإجراءات أن تحسن وضعه خصوصا الجانب الاستهلاكي. فالحديث عن الاستهلاك يدفعنا للحديث عن السوق والاقتصاد بشكل عام. ولعل البعض، حسب فهمهم، وهو ما يمكن تفسيره تماما، ينتقدون السياسة الحالية للسلطة التقديرية وذلك لأن المبتغى من تطبيق السياسات المالية التوسعية هو تحسين وضعية المواطن لاسيما الاستهلاكية. ولكن، ما لا يدركه البعض هو أن هذه الوضعية تأثرت للأسف مع ظهور هذه الجائحة وتوغلها بين المواطنين. والهدف من السياسات، بعد هذه الأحداث والتقلبات الطارئة، هو إعادة الاقتصاد إلى سابق عهده. فالسياسة الاقتصادية في هذه الفترة الاستثنائية ترمي إلى إعادة الاستقرار للسوق بفاعليه ككل. وليس لإحقاق الرفاه، وهو السبب الأساسي الذي أنشئت السياسة الاقتصادية لأجله.
- تمويل نشاط الإدارة والسياسة الاقتصادية في ظل هذه الفترة :
للإدارة العامة نشاطات، تتمثل هذه النشاطات في أعمال المرافق العمومية ومهام الضبط الإداري. وللقيام بهذه النشاطات تعتمد الدولة على وسائلها البشرية (الموظفون العموميّون) والمادية (الدومين الخاص والدومين العام).
ولكن بالنسبة لبعض وسائل نشاطها، يتعين على الدولة تحمل تكاليف استخدام هذه الوسائل. هذا ما يسمى بتمويل نشاط الإدارة.
تعتمد موريتانيا في إطار تمويل نفقاتها بشكل كبير على الضرائب بكافة أنواعها (+- 70% من إيرادات الدولة)، وقد شهدت هذه الضرائب تناقصا حادا جراء الإعفاءات الضريبية والجمركية المقررة سابقا. ولهذا توقع وزير المالية ا عجزا في ميزانية التسوية يساوي 5% من الناتج الداخلي الإجمالي. فقرر مراجعة كافة الغرامات لزيادتها وإضافة شروط على مسطرة اعتماد ممثلي الشركات الأجنبية بهدف منع التهرب من الضريبة وتخفيض نسب الخصم للحد من الدفع نقدا.
ففي هذه الفترة، يتعين على الحكومة إحكام القبضة على دافعي الضريبة الذين لم تشملهم الإعفاءات، وضبط المخالفين، الذين تستدعي مخالفاتهم دفع غرامات. علاوة على ذلك، يجب التحقق من عدم تهرب أغلب دافعي الضريبة، وذلك للمشاركة في المجهود الوطني في هذه الفترة العصيبة.
لقد مثلت التبرعات الي تلقتها الدولة سواء من مؤسسات أو أفراد عنصرا مهما من آليات تمويل النشاط العام. نرجو من الله أن تستخدم على الوجه الأمثل.
تمثل عائدات الدولة من مواردها الطبيعية مصدر تمويل ممتاز للنشاط الحكومي، نرى أنه على الدولة التركيز على تنمية هذه المداخيل للابتعاد عن عجز الميزانية.
تشهد مداخيل خام الحديد انخفاضا وذلك نتيجة لانخفاض الطلب عليه من المصانع في الخارج. مما يضر موازنة التجارة وبالتالي قيمة العملة. ويعتبر الحديد المنتج الأكثر إدرارا للأرباح على البلد.
نرى أنه على الدولة، في هذه الفترة، مراجعة تقنيات تسويق الخامات وذلك لجعل مداخيل صادراتنا مستقرة من أجل تمويل النشاط العمومي في ظل هذه الأزمة.
وفي الأخير، نرى أن السياسات الحكومية تبقى محل نقاش وانتقاد. فالبعض له مآخذ على السياسات المنتهجة وأولويات التدخل الحكومي. والبعض الآخر يرى أن الحكومة بجميع أقسامها تبلي بلاء حسنا. ولكن تبقى مالية موريتانيا رهينة الفترة الحالية. وفي ما يلي اقتراحات من شأنها أن تكون في صالح الدولة :
-تقوية الرقابة على المداخيل الضريبية.
-تعزيز فرق التحصيل على كافة المستويات.
-البحث عن موارد ضريبية جديدة.
- تسريع وتيرة توزيع المبالغ المالية المقررة من الحكومة وذلك لعوميه فائدتها.
- رفع قيود الاستثمار الخاص.
- ترسيخ مبادئ عقلنة الاختيارات في الميزانية.
- عقلنة توجيه النفقات.
- رفع قيود التبادل التجاري و تحسين العلاقات مع المانحين.
- تحسين استغلال الموارد الاستخراجية.
- حث الأسر المتوسطة والغنية على التكفل بالأسر الفقيرة لما في ذلك من الأجر عند الله، تعزيز الوحدة الوطنية والحفاظ على استقرار منظومة الطلب في السوق.

ثلاثاء, 19/05/2020 - 12:14